رأي

عندما يكون البشر هم النفايات

بروفسور وائل الكردي

«هناك حقائق تطوف الاسواق ليل نهار ، ولأنها تطوف الاسواق تمر بها عامة الناس دون أن تبصرها ، أو هي تبصرها ولا تعرفها. وعامة الناس تتعامى في الغالب عن رؤية الحقائق الصارخة ويتملكها العجب إذا اكتشف أحد الناس ما يفترض في الجميع معرفته ، إن الآف المسائل القائمة حولنا معظمها بسيط ميسور الحل كبيضة كولومبوس ، ولكن قلائل جداً هم الرجال الذين نجدهم حولنا من طراز كولومبوس» ..

ليس هذا القول لأحد الحكماء الاخلاقيين العظام ، وإنما هي كلمة حق جاد بها (ادولف هتلرHitler ) في كتابه (كفاحي) Mein Kampf..

في كل بلاد العالم ، نرى في الحاويات من حولنا بها الكثير جداً من النفايات التي انفقها بنو آدم ، ولكننا بعد لحظات نجد أن هذه النفايات قد زالت من الحاويات ولم يعد لها مستقر أو أثر، كأنما قد تبخرت كما الماء في الهواء أو ذابت كالملح في قاع الفنجان .. والحق أنه يتم دوماً إعادة تدويرها لكي تكون صالحة للاستعمال الآدمي مرة أخرى، فيستعملونها .. ثم لتعود نفايات مرة أخرى .. ثم ليعاد تدويرها وإنتاجها من جديد .. وهكذا بلا يأس أو فقدان أمل، فكل ما خلق الله في الوجود نافع ، ناهيك عن الإنسان نفسه ..

في كثير من بلاد العالم لم يعد هناك نفايات من جمادات و آنية .. ولكن صار البشر هم النفايات، كم هائل من القوى الخلاقة المهدرة مشردين ولقطاء ومجهولي الأبوين ولاجئين ممن تقدر أعدادهم بعشرات الألوف في المجتمع الواحد .. بشر يجوبون الشوارع ليلا كخفافيش الظلام ، لا أمل لهم في الأفق ولا هدف ، ولا قيمة للحياة فيهم ولا عقل ولا بدن .. كتل بشرية هرمت في أيام الطفولة والصبا .. عليهم ثياب قد تقذرت وتقطعت خيطانها ولم تعد تستر عورة ولا تقي من لسعة برد .. كل ما يفعلونه هو البحث عن مخدر يدمرون به خلايا أدمغتهم ويستعجلون به الموت الزؤام ، فكل أحلامهم تأجلت لما بعد الموت .. وهم يبحثون عن بقايا طعام من شبعت بطونهم فناموا ملء جفونهم حتى أسنت الدماء في عروقهم دون أن يشعروا بأولئك الباحثين عن النتف العالقة بعظام الدجاج في حاويات النفايات قبل حملها للتدوير لسد صرخة الجوع في أعماقهم فتشعرهم غصباً بأنهم أحياء ينبضون في عالم لم يرحمهم يوماً بجرم من أنجبوهم .. إنها حقاً لمأساة ، فإن كان بنو آدم قد افلحوا في إحياء الأمل في مخلفاتهم من معادن وأوراق ، أوليسوا قادرين على إحياء الأمل في البشر .. بلى ، وإنها لرسالة إلى وزارة الرعاية الاجتماعية وتوابعها أن لو رصدت ربع ميزانيتها لإعادة تدوير البشر المشردين كالنفايات ليعودوا أناساً أسوياء من جديد وذوي قيمة ونفع ، لكفى .. فأولاً ، بناء مجمعات سكن وورش على أرض خلاء من حديد هش ولبنٍ رخيص ، وميدان رياضة من الرمال ومسجد وحفنة أشجار .. ثم ثانياً ، جمع كل البشر النفايات المشردين من ثنايا الزقائق والطرقات في تلك المجمعات وإلباسهم ثياب (طلبة) من (دمورية) بيضاء كملبس طلاب التدريب العسكري في مرحلة إعادة الصياغة ، وليبدأ المشروع في كل يوم .. في الفجر الباكر ، صلاة ونظافة شخصية وتربية بدنية ثم إفطار ، يليه درس في الدين واللغة العربية والحساب البسيط ، ثم حصة للحرف الفنية والمهن داخل الورش حتى الظهيرة ، ثم الغداء وبعقبه راحة المساء .. وبعد العصر يشربون العصير المحلى فينطلقون تحت الإشراف إلى برنامج (الخدمة العامة) فإما نظافة طرق أو إصحاح بيئة أو صيانة مرافق أو أعمال سلامة مجتمعية أو تصنيع يدوي أو فلاحة وانتاج زراعي .. وبعد العشاء ، سمر ولهو وترفيه .. وعند العاشرة ليلاً تطفأ القناديل ويحين موعد الأحلام .. كل هذا فقط بتكلفة نومهم وأكلهم وكسائهم .. وفي أيام معلومات من كل أسبوع تحضر المنظمات الطوعية بأدوارها ، وكفيل عنها كلها (جمعية الكشافة) بشعارها النبيل (من أجل حياة أفضل) ، فتصنف هؤلاء الأطفال والفتية في هيئة فرق وطلائع ، ثم تعمل على منحهم جرعات ثرة من التدريب المنتظم في القدرة على التصرف حال الطوارئ أو غيرها والاعتماد على الذات وتنمية المهارات وممارسة الهوايات وطرق حل المشكلات وإزالة العوائق ، ويتعلمون رسم المستقبل السليم وإغاثة الملهوف وإسعاف المنكوب ، ويكون لهم في حياة الاخلاء والتعايش مع الطبيعة تربية للنفس وصقل للجوارح وتقوية للعزم وتعزيز للثقة بالنفس ، وتلك هي أهم منجزات الكشافة .. كما لا ننسى بحث ذلك العقل الذكي لديهم الذي انتج بينهم لغة مبدعة يتداولونها ويعذر تداولها لدى غيرهم .. وهكذا يعاد تدوير البشر النفايات فيصبحون انتاجاً جديداً بأقل التكاليف، ليخرجوا بعد حين يقدر بقدره رجالاً ونساءً كباراً نفوسهم ، عاملين محترفين منتجين ومربين أفاضل وربما قادة مجتمعات .. فالمهم ، أن لن تعود الحياة بعدهم في البلاد كما كانت ، وذلك هو الاستثمار في الكبد الرطبة ، ومن وراء القصد قول الله تعالى (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) .. اللهم قد بلغت .. اللهم فاشهد ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى