إستقصاءتحقيقات

  “فلاي بوكس”… كيف يوظف المهربون وسائل التواصل الاجتماعي لاصطياد ضحاياهم !!

المحقق – هبة عبد العظيم

” لسنا الوحيدين ولكنا الأفضل علي الإطلاق،  الساده الكرام، رحلاتنا مستمرة كل يوم من بورتسودان 12 ساعة فقط إلى أسوان، رحلاتنا فيها مميزات كثيرة، تخفيض كبير جداً أسعارنا منافسة و عربتانا جديدة و مريحة ،  العربات برادو و بكاسي ، مميزات الرحلة: عندنا شبكة قبل أسوان بي 3 ساعات تستريح فيها + تتواصل مع أهلك داخل السودان  و مع مَن يستقبلك في أسوان ،وشعارنا الدقة + الامان + الراحة”
بهذه العبارات المنشورة على عدد من الصفحات على تطبيق فيسبوك يتم استدراج المسافرين السودانيين الهاربين من جحيم الحرب في بلادهم بواسطة  مهربي المهاجرين إلى مصر ، وقد رصد موقع “المحقق” الإخباري  عشرة صفحات تخصصت في نشر الترويج للسفر عبر ما يُعرف ب “فلاي بوكس” أو ( سمبك – أي قارب ) الصحراء.

ورغم الترويج المحفز للسفر إلى مصر بواسطة مهربي المهاجرين السودانيين ، إلا أنه من بين ما لا يقل عن خمسة وثلاثين شخصاً استعانوا بالمهربين للدخول إلى مصر استمعت محررة “المحقق” إلى إفادتهم ؛ لم يصل منهم بسلام إلى القاهرة، ودون التعرض لحوادث تذكر، إلاّ خمسة فقط، رغم أنهم عانوا من وعورة الطريق ووحشته والقيادة المتهورة للسائقين ، في حين تعرضت البقية من العينة المستطلعة إلى صنوف من العذاب خلال الرحلة، فمنهم من لقى أفراد من أسرته أو من مجموعته المرافقة خلال الرحلة، مصرعهم خلال الرحلة، نتيجة السقوط من العربة المسرعة وبعضهم تعطلت العربة بهم وهرب السائق وتركهم في الصحراء لأكثر من ثلاثة أيام ومنهم من  مات عطشاً أو نتيجة ضربات الشمس ، أو انقلبت بهم العربة نتيجة السرعة الزائدة وفقدان السائق السيطرة عليها .

تمكنت معدة هذا التحقيق من إجراء مقابلات مع ثلاثة من أشهر مهربي المهاجرين السودانيين إلى مصر ، لم يمانعوا في الإجابة على الاسئلة التي بدأت عبر تطبيق ماسنجر ثم انتقلت إلى تطبيق واتساب بناء على طلبهم ، الثلاثة ممن ينشطون في الترويج لرحلاتهم على الصفحات المتخصصة للسفر إلى مصر  ومن خلال الحديث اتضح أن غالبيتهم تربطهم سلسلة علاقات  قرابة وشراكة عمل بين بعضهم البعض ، وقال أحدهم: “نحن كسائقين لدينا مجموعات تضمنا على الواتساب لتبادل المعلومات الخاصة بالرحلات وحركة السيارات وقراءة الشارع”. إلى جانب إنهم يكونوا على علم بكل الرحلات نتيجة لشبكة علاقاتهم الواسعة مع زملائهم في المجال ، يتفق المهربون الثلاثة على أنه منذ أكتوبر من العام الماضي  كانت تدخل الحدود المصرية (50) عربة يومياً العربة الواحدة فيها (22) مسافراُ  بواقع عدد (1100) مهاجر يومياً، وتقلص العدد منذ يونيو 2024 إلى أن أصبح (700) مهاجر خلال الأسبوع الواحد بواقع تحرك ما يقارب (31) سيارة خلال الأسبوع .

ورصد موقع “المحقق” الإخباري عدداً من الصفحات على تطبيق فيسبوك ينشر فيها مهربو البشر والسماسرة طرق التواصل معهم بجرأة ويروجون من خلالها لرحلاتهم التي يصفونها بالآمنة والمريحة والسريعة ويضعون أرقام هواتفهم للتواصل عبر تطبيق الواتساب . فعلى سبيل المثال، نشر أحد  المهربين على فيسبوك أرقام الاتصال الخاصة به في منشور، ووعد بنقل “العملاء” إلى مدن حدودية مثل أسوان أو حتى إلى العاصمة القاهرة في رحلة آمنة خالية من الصعوبات، تواصلت معدة التحقيق معه  وطلب مخاطبته ب “الرشيدي” وقال أنهم يقدمون خدمة للمسافرين السودانيين الفارين من جحيم المعارك في ولاياتهم، وأنهم يوفرون هذه الخدمات بأسعار زهيدة  مقارنة بتكاليف الموافقات الأمنية التي وصلت إلى ما يعادل ألفي دولار للفرد الواحد ، ووفقاً للرشيدي فهم يعملون في شكل مجموعات حتى يساعدوا الفارين من الحرب على الدخول والإستقرار في بلد آمن.

و تنطلق السيارات التي تقل المهاجرين السودانيين من  مناطق محددة بثلاث ولايات هي الشمالية ونهر النيل و البحر الأحمر، سعر الراكب للرحلة  يتراوح بين ما يعادل    (195 – 300) دولار حتى الحدود السودانية المصرية ومنها إلى ما يُعرف بمنطقة الكسارات بالقرب من أسوان .

مخالفة القانون:
المستشار السابق  بنيابة جرائم المعلوماتية بالسودان إسلام تاج السر يقول لموقع “المحقق” الإخباري إن استخدام الوسائط ووسائل التواصل الاجتماعي لارتكاب أو تسهيل ارتكاب جريمة الاتجار بالبشر أو الترويج لها يُعد مخالفة صريحة لقانون مكافحة جرائم المعلوماتية، حيث نص قانون 2018 تعديل 2020 على ذلك بالمادة (31) والتي تقرأ (كل من يهيئ أو يستخدم شبكة المعلومات أو الاتصالات أو أي من وسائل المعلومات أو التطبيقات، لارتكاب جريمة الاتجار بالبشر أو تسهيل ارتكابها أو الترويج لها، يعاقب بالسجن لمدة لا تتجاوز خمس عشرة سنة أو بالغرامة أو بالعقوبتين معا).

ويوضح تاج السر بأن استخدام وسائل التواصل لارتكاب أو تسهيل ارتكاب الجرائم أو الترويج لها يزيد من خطورة الجرائم ومدى فداحة آثارها، إذ أن نطاق الوصول لما ينشر بتلك الوسائل لا يقارن بالمدي المحدود حول مرتكبي الجرائم بشكل تقليدي ، وذلك ما فطن إليه المشرع عند تعديل القانون في العام 2020 حيث كانت التعديلات في مجملها عبارة عن تشديد للعقوبات، وذلك شمل جريمة الاتجار بالبشر والتي تم تعديل عقوبتها من عشرة سنوات لخمس عشرة سنة. ويضيف قائلاً:” و على صعيد آخر فإن الترويج للجرائم عبر السوشيال ميديا قد يقلل من استنكار المتلقي للجرائم بشكل تدريجي  واعتيادها، وذلك يقود لتغيرات مجتمعية على مستوى الآداب العامة والأخلاق والمعتقدات”.

تعريف تهريب المهاجرين :
وتعرف المادة (٣) الفقرة (أ) من بروتوكول تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو، المكمِّل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية تهريب المهاجرين بأنه  تدبير الدخول غير المشروع لشخص ما إلى دولة طرف ليس ذلك الشخص من رعاياها أو من المقيمين الدائمين فيها، وذلك من أجل الحصول، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، على منفعة مالية أو منفعة مادية أخرى ، وعرفت الفقرة (ب)  “الدخول غير المشروع”  بأنه يقصد به عبور الحدود دون تقيّد بالشروط اللازمة للدخول المشروع إلى الدولة المستقبلة؛ بينما  تنص المادة (5) من ذات البروتوكول فيما يتعلق بمسؤولية المهاجرين الجنائية بأنه لا يصبح المهاجرون عرضة للملاحقة الجنائية بمقتضى هذا البروتوكول.

من ناحيته يرى  العقيد المتقاعد عوض السيد  جبارة  والذي عمل حتى العام 2022 مديراً لإدارة الاتجار بالبشر التابعة لوزارة الداخلية السودانية، أن السودان ومصر ربما تشاركان في تلك المخالفة ، فمصر تغض الطرف عن عملية الدخول غير المشروعة والسودان أيضأً يشارك بتركه لمواطنيه يسلكون طرق الهجرة  إلى مصر دون العبور بالمعابر الحدودية التى توجد فيها سلطات الجوازات والجمارك وبقية السلطات الأخرى. ويعرف جبارة ظاهرة تسلل السودانيين إلى مصر  قائلاً: “حسناً ، أي دخول غير مشروع  لدولة بدون تأشيرة دخول صادرة من سلطات البلد المضيف، ويتم بواسطة مهربي البشر بمقابل مادي أو بأي شكل من أشكال الفائدة يعتبر تهريباً للبشر”.  فيما يبدي جبارة استغرابه  مما يشاهده ويتابعه على وسائل التواصل الاجتماعي والمجاهرة علناً بهذه التجارة  المحرمة دولياً ووطنياً .

من جانبها تؤكد  إدارة مكافحة التهريب بشرطة الولاية الشمالية أنها لم تتلق أي توجيهات من رئاسة شرطة السودان  بالتحرك لمواجهة ظاهرة تهريب البشر إلى مصر ، ويضيف مصدرنا بشرطة الولاية الشمالية والذي فضل حجب اسمه لأنه غير مخول بالتحدث للاعلام : ” كل تحركات مهربي البشر نرصدها ، وحتى إعلانهم لرحلات تهريب المواطنين السودانيين إلى الحدود المصرية عبر الفيسبوك ومجموعات الواتساب نتابعها، وهذه الجرأة تثير إستغرابنا وهم يتحركون من الأسواق وسط المدن و  يصادف أحياناً أن تتحرك  في ساعة واحدة نحو خمس سيارات، السيارة الواحدة تحمل ما لا يقل عن 22 شخصاً إلى الحدود المصرية”. ويستدرك المصدر قائلاً :” حالياً  ليست لدينا توجيهات من رئاسة الشرطة بإيقاف هذا النشاط أو التجار الناشطين فيه”.

فيما يرفض الخبير الأمني الضابط المصري  المتقاعد حاتم صابر فكرة أن السلطات المصرية تغض الطرف عن نشاط مهربي المهاجرين و يقول لموقع “المحقق” الإخباري: “بالنسبة للسلطات المصرية فهي لا تغض الطرف مطلقاً عن أي نشاط معادي يمس الأمن القومي المصري لا سيما وأن جهود الدولة المصريه في مكافحة الهجرة غير الشرعية ممتدة منذ سنوات طويلة وحتى الان، وتعمل الدولة علي رصد وتتبع عصابات التهريب حفاظاً علي الأمن القومي ، أما  بالنسبه للسلطات السودانيه فمن المحتمل تأثر أدائها الأمني بالأحداث الجارية بالدولة السودانية التي أشرت إليها في البداية ، إلا أن هناك تنسيقاً أمنياً بين السلطات المصرية السودانية لتنفيذ أعمال مكافحة التهريب والاتجار بالبشر”.

اما الخبير الأمني السوداني طارق محمد علي  فيرى أن انتشار هذا النشاط هو نتيجة طبيعية لتدهور الأداء الشرطي بسبب الحرب.
موضحاً أن خطورة عمليات تهريب المهاجرين قد تتطور  لتتمثل في نقل الأسلحة والمعدات الحربية وتهريب الذهب وإدخال مواد غذائية منتهية الصلاحية فضلاً عن المخدرات ، على حد تعبيره.

نموذج للضحايا
بسبب تأخر منحهم تأشيرة الدخول إلى مصر فقدت ناريمان حسن والدتها وأخاها في حادث مروري حيث كانوا في طريقهم الى دخول  مصر عبر التهريب، وتروي ناريمان (20) عاماً   تفاصيل الحادث: ” قررنا الخروج من مدينة ود مدني بولاية الجزيرة بعد أن اجتاحتها قوات الدعم السريع ، ذهبنا إلى مدينة القضارف  في نهاية ديسمبر من العام الماضي ، ومنها غادرت برفقة والدتي إلى مدينة حلفا (شمال السودان) للتقديم لتأشيرة الدخول إلى مصر عبر القنصلية الموجودة هناك ، حتى أبريل لم نسمع أي خبر عمّا إذا منحنا التأشيرة أم لا ولا، ونحن لا نملك  مالا للحصول على الموافقات الأمنية ” ، تواصل ناريمان : “اتفقنا على أن نسافر عبر (فلاي بوكس) ، تواصلت مع أحد السائقين كان قد  ترك رقم هاتفه على الصفحة التي أعلن فيها عن رحلاته “الآمنة” ، الاتفاق كان أن نأتي إلى نقطة الانطلاق من مدينة أبو حمد حوالي الساعة الخامسة والنصف مساءً لأن الرحلة تبدأ في السابعة مساء ، وبالفعل انطلقت بنا  العربة  من أبو حمد  بسرعة 150 كلم في الساعة ، السائق عمره لا يتجاوز السبعة عشر عاما، تم ربطنا بالحبال أرجلنا خارج الصندوق وأجسادنا بداخله، بعد تحركنا  بأربع ساعات رأيت أمي وأخي الأصغر  يطيرون في الهواء ويسقطون أرضاً خارج صندوق العربة البوكس عندما إصطدمت  السيارة بصخرة كبيرة لم ينتبه لها السائق نسبة للظلام الدامس”  ورغم توسل وصراخ الركاب على السائق فقد رفض التوقف ولم يقبل  في البداية الاستجابة لطلبات الركاب بدفن  المتوفين (كانوا أربعة أمي وأخي واثنان من الركاب)، بحجة أن الوقت ليس في صالحه وأن السائق المصري ينتظر على الطرف الآخر من الحدود ، ولكنه وافق تحت ضغط الركاب ونحيب ناريمان  وأخواتها،  “كان الليل قد إنتصف ، وكل ما استطعت سماعه هو عواء الذئاب، كنا في منطقة صحراوية تحيطها جبال “. و بكت ناريمان  بشكل هستيري عبر الهاتف وهي تتذكر اللحظة التي غيرت مجرى حياتها إلى الأبد.
ووفقا للأمم المتحدة فإن «أكثر من 10 ملايين سوداني هجروا ديارهم منذ اندلاع القتال بين الجيش و(قوات الدعم السريع) في 15 أبريل 2023، لجأ حوالي مليونين منهم إلى البلاد المجاورة، وكانت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بمصر قد أعلنت عن تسجيل نحو (450) ألف لاجئ سوداني.

أما عمار علي (46) عاماً والذي  يعمل كمصمم جرافيك فقد اضطرته ظروف تعطل دراسة أبنائه وبناته بسبب الحرب إلى اتخاذ قرار الدخول إلى مصر عبر التهريب وهو الذي إنتظر الحصول على التأشيرة لأكثر من خمسة  أشهر، يقول عمار: ” من كسلا حتى الحدود المصرية  استأجرنا  بوكس بقيمة (2.600.000)  جنيه سوداني، ما يعادل (2,300) دولار عبر الإتفاق مع مهرب نشر رقمه على الفيسبوك . (التخزينة) هي نقطة  بين حدود الولاية الشمالية والحدود المصرية يحدث فيها التبادل بين المهربين السودانيين و المصريين ويقول عمار: “هنا تنشط تجارة الوقود والذهب، رحلتنا استغرقت 36 ساعة من التخزينة حتى منطقة تسمى الكسارات داخل مصر. تعرضت وأسرتي لمخاطر وأهوال خلال الطريق و صرفت مبالغ طائلة  للوصول إلى القاهرة “.

الحقوقي المصري أشرف ميلاد يقول: إذا كان هؤلاء المهاجرين يرغبون في طلب لجوء لسلموا أنفسهم إلى أقرب ممثل للسلطة المصرية و وفقاً للمادة 31 من اتفاقية جنيف  للاجئين لا تقع عليهم أي عقوبة والدولة المصرية تحترم ذلك، مضيفاً أن القانون رقم 22 لسنة 2022 جاء بتعديل بعض أحكام قانون مكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب المهاجرين الصادر بالقانون رقم 82 لسنة 2016، لمكافحة الهجرة غير الشرعية ،وحماية الفئات الأكثر عرضة لخطر الاستغلال من جانب المهربين وهم الشباب والأطفال وأسرهم وكذلك ردع ومعاقبة سماسرة وتجار الهجرة من خلال إجراءات وعقوبات مشددة.
و نصت المادة (6 ) من القانون  المصري على أنه  يعاقب بالسجن المشدد وبغرامة لا تقل عن مائتى ألف جنيه ولا تزيد على خمسمائة ألف جنيه أو بغرامة مساوية لقيمة ما عاد عليه من نفع، أيهما أكبر، كل من ارتكب جريمة تهريب المهاجرين  أو الشروع فيها أو توسط فى ذلك .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى