رأي

كيف نعزّز أهمية السودان الاستراتيجية في النظام الدولي؟

د. إسماعيل ساتي

السؤال الذي يطرح نفسه هو، لماذا لا يُحظى السودان بأهمية استراتيجية بين الدول، الكبير منها أو الصغير؟! لماذا يقبع السودان في ذيل اهتمامات كثير من هذه الدول، أو هكذا يبدو ؟ بل نكاد نقول إنها صارت السمة الغالبة في تعامل الدول الإقليمية والدولية مع السودان؛ كركضنا خلفها، واستقبال كبرائنا لسفراء دولهم وكأنهم رؤساء دول في الوقت الذي يُستقبل فيه كبراؤنا عند وصولهم مطاراتهم من قبل موظفين ديوانيين، وغير ذلك من الظواهر.

فما هي الأسباب؟ وقبل أن نُتهم بالتهويل والشطط في سرد السلبيات، سوف نقوم بتقييم الأوضاع في بلادنا وبتحليلها تحليلاً موضوعياً بعيداً عن العواطف؛ وما نريد إلا الإصلاح ما استطعنا لذلك سبيلاً.

هل السودان ضعيف حقاً، ولماذا؟

قبل أن نجيب على هذا السؤال، دعونا أولاً نعرّف المقصود بالضعيف وكيف نفرّق بينه وبين القوي.

من مظاهر وسمات الدولة الضعيفة: هشاشتها وعدم قدرتها على أداء وظائفها الأساسية، مثل الحفاظ على الأمن والسيطرة على أراضيها وتوفير الخدمات الأساسية وفرض القانون؛ ومن مظاهر الضعف انتشار الصراعات الداخلية والفساد الممنهج وتدهور البنية التحتية، ناهيك عن تدهور الاقتصاد والاعتماد الكبير على المساعدات الخارجية وشيوع الاقتصاد غير الرسمي والتجارة غير الشرعية وارتفاع معدلات البطالة والفقر والنزوح الجماعي للسكان وانتهاكات حقوق الإنسان، ومنها الصراعات السياسية الحادة التي تحول قواعدها الشعبية لمجموعات متقاتلة ومستقطبة والقبلية المتجذرة في سلوكيات الناس والصراعات على الهوية، وأخيراً فقدان السيادة الوطنية بسبب النفوذ الخارجي المباشر.

وبعد أن استعرضنا الكثير من سمات الدولة الضعيفة دعونا نسأل: أين السودان من كل هذه الظواهر؟

أظن أن الإجابة واضحة!

والآن، فلنعد بخطوة إلى الوراء وننظر إلى العالم الذي نعيش فيه اليوم لنرى بوضوح أين السودان من كل هذا.

تصنيف العالم لثلاثة عوالم، أول وثاني وثالث

تصنيف العالم إلى عوالم عدة نشأ خلال الحرب الباردة في خمسينات القرن الماضي، وكان في البداية تصنيفاً سياسياً أيديولوجياً وليس اقتصادياً. وفقاً لهذا التصنيف، تشكل العالم الأول من الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، وتشكل العالم الثاني من دول أوروبا الشرقية الملتفة حول الإتحاد السوفييتي، ثم اختفى تصنيف العالم الثاني بانهيار زعيمهم السوفيتي في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، ولم نعد نسمع عنهم سوى أن دوله قد انضم بعضها للعالم الأول وبعضها للعالم الثالث، وبقي بعدها عالمان هما الأول والثالث. ويتشكل العالم الثالث من الدول النامية والفقيرة اقتصادياً والمضطربة سياسياً، لذلك وُسمت دول العالم الثالث بالدول الفقيرة. أي أن العالم الأول هو الدول الغربية والعالم الثالث هم باقي دول العالم الفقير منها والضعيف.

ولأن هذا الأمر ليس من صلب ما نطرحه في هذا المقال من نقاش، فسوف نغض الطرف عنه إلى حين، ونكتفي بتناول الاستراتيجيات التي يجب أن تتخذها دولة من دول العالم الثالث من أجل أن تحظى باهتمام دول كبرى وتضعها في مقدمة أولوياتها. هل هذا ممكن، ولماذا؟ كيف لهذه الدول أن تظفر ببناء تحالفات مع الدول الكبرى وأن تحظى بأولوية في اهتماماتها الاستراتيجية؟ وهل لدولة كالسودان مخرج من القبوع في ذيل قائمة أولويات هذه الدول؟

للإجابة على هذا السؤال نقول إن استراتيجيات الدول عموماً التي تمكنها من اكتساب أهمية استراتيجية لدى دول كبرى والظفر باهتماماتها تنحصر في عدد من العوامل، نذكر منها أربعة:

• الأمن القومي: إذا كانت الدولة الأخرى تشكل إما تهديداً أو فرصةً لأمنهم.

• الأهمية الجيوسياسية: مثل موقع الدولة ومواردها ودورها في الصراعات الإقليمية.

• المصالح الاقتصادية: مثل وجود موارد طبيعية (كنفط ومعادن) أو أسواق استهلاكية.

• القدرة على التأثير: وجود حكومة قوية تستطيع طرح رؤاها التفاوضية بصلابة أو تشكيل تحالف استراتيجي.

وقد تكون هناك أسباب أخرى لن نخوض فيها، مثل هوان دول واستسلام زعمائهم من أجل الحظوة، وهذه الأسباب قصيرة المدى وقد أثبتت التجارب أن الدول الكبرى تلفظ هؤلاء الزعماء لفظ النواة عند انتهاء أمد صلاحياتهم.

فما الذي يجعل دولة ضعيفة مثل دولتنا تثق بالدول الكبرى وتقيم معها تحالفات طويلة الأمد؟ هل لهذه الدول مصداقية؟ هل تحكمها القيم والمبادئ حتى نضع فيهم ثقتنا؟

رسم سياسات الدول: بالمصالح أم بالقيم؟

عندما يقوم الاستراتيجيون برسم سياسات دولهم، ما الذي يغلب عليهم ويختارونه، المبادئ والقيم أم المصالح؟ وهل حقاً تتعارض المصالح مع القيم؟

قبل أن نجيب على هذا السؤال دعونا نسألكم، هل تعلم عزيزي القارئ مَن الذي قال أن: “المصالح فوق القيم في العلاقات الدولية، وأنه لا وجود لأصدقاء دائمين ولا لأعداء دائمين بل لمصالح دائمة”؟!

هذا القول منسوب لعدد من جهابذة السياسة التاريخيين، نذكر منهم بسمارك، المستشار الألماني ومهندس توحيد ألمانيا في القرن التاسع عشر، الذي قال أن: ” السياسة ليست علماً، بل هي فن الممكن”، كما عُرف عنه قوله: “التحالفات تتغير، ولكن المصالح تبقى.” إلا أن اللورد بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا في خمسينات القرن التاسع عشر كان قد سبق بسمارك بقوله في عبارته التالية: “ليس لدينا حلفاء دائمون ولا أعداء دائمون، لدينا فقط مصالح دائمة، ومن واجبنا أن نتبع هذه المصالح.”

ثم تبع بسمارك وبالمرستون المهندس والمنظّر الاستراتيجي المعاصر ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بقوله: “المصالح فوق القيم في العلاقات الدولية، وأنه لا وجود لأصدقاء دائمين ولا لأعداء دائمين بل لمصالح دائمة؛ فالمصلحة الوطنية هي المحرك الأول للدول حتى لو تعاونت مع أنظمة تتعارض قيمها مع قيمهم”.

ليس هناك أوضح من ذلك في الإجابة على سؤالنا أعلاه!

إذاً نستخلص من ذلك أن الدول والتكتلات الكبرى كالولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوربي، على السواء، تستخدم القيم كذريعة لتبرير سياساتها وخدمة مصالحها على حساب مصالح دول العالم الثالث سالفة الذكر. أما إذا تعارضت، فالقيم تذهب والمصالح تبقى. فالمصلحة الوطنية للدولة هي المحرك الأول حتى لو تعاونت مع أنظمة تتعارض قيمها مع قيمهم. وعليه، فالديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة والحرية هي مجرد شعارات زائفة ترفعها هذه الدول من أجل تحقيق أغراض تلبي مصالحها.

وعليه، فالدول الكبرى، والصغرى (على السواء)، يرسمون سياساتهم في عالم تسيطر عليه مفاهيم بعيدة عن المبادئ والقيم، بينما تُستخدم القيم كشعارات زائفة لتحقيق مصالحهم. فما الذي يمنع السودان من السعي جاهداً لتحقيق مصالحه، ليس على حساب قيمه بل بالموازنة بينهما؟ فما لا يدرك كله لا يترك جله. هذا ليس استفهام تقريري بل استنكاري.

إذاً، كيف تُرسم مصالح الدول؟

مصالح الدول هي الغايات التي تسعى إليها للحفاظ على بقائها وقوتها، وتشمل الاقتصاد والأمن والنفوذ الجيوسياسي. وتُرسم هذه المصالح بواسطة أصحاب الشأن من رأس دولة ومجلس وزراء وقوات نظامية ونخب سياسة واقتصادية ومؤسسات مدنية، إلى آخره. إلا أن هذه المصالح لا تكون فعّالة إلا بتطوير البصيرة المنظومية لدى هؤلاء مثلما أشرنا لذلك في سلسلة مقالات سابقة. كما أن استخدام آليات التحليل الاستراتيجي الشائعة يمكن أن تساعد في استشعار الصورة الكلية وتعديل الصور الذهنية السلبية.

يتم ذلك عبر عدد من السبل، نذكر منها:

تعزيز الاستقرار السياسي ببناء مؤسسات قادرة على صنع القرار؛ وتنويع الاقتصاد باستغلال الموارد الهائلة التي يتمتع بها بلد كالسودان وجذب الاستثمارات؛ وإنشاء دبلوماسية ذكية تسعى لبناء تحالفات مع دول عدة كالصين وروسيا وتركيا وإيران، مع السعي لتوثيق العلاقات مع دول الغرب والخليج؛ وقبل كل ذلك، تعزيز الأمن القومي بضمان سيادة الدولة ومكافحة الجماعات المسلحة.

هل حقاً المشكلة في السودان أم في دول العالم؟

نقول في الإجابة على هذا السؤال أن المشكلة مشتركة.

فالسودان يُلام بسبب غياب رؤية استراتيجية طويلة الأمد تساعد في قيام تحالفات على أسس أيدلوجية أو اقتصادية أو عسكرية، ويُلام بسبب ضعف الحوكمة والفساد المستشري على جميع المستويات وعلى سوء الإدارة. كما أن السودان لا يعرض لهذه الدول مصالح مشتركة كافية لتبرير وضعه في اهتماماتها. هذا فضلاً عن الصراعات العرقية والإقليمية التي تُضعف موقف السودان في المفاوضات الدولية؛ ولا يخفى دور العالم الغربي في إشعال الفتن التي قادت لمثل هذه الانقسامات.

أما الدول التي يسعى السودان لإيجاد موطئ قدم في دائرة اهتماماتها الاستراتيجية كالولايات المتحدة والصين والاتحاد الروسي، فتُلام لأسباب عدة نذكر منها: سياسة المعايير المزدوجة لديها. فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، تغض الطرف عن انتهاكات تحدث في دول غير استراتيجية كالسودان بينما تقيم العالم ولا تقعده لحادثة طوفان الأقصى التي أشعلتها حركة حماس ضد الكيان الإسرائيلي، هذا برغم أن وحشية أحداث السودان أشد وأكثر إيلاماً وأمداً من تلك التي جرت بالشريط الحدودي من غزة. كما أن هذه الدول تتدخل سلباً في أزمات (كأزمة دارفور) ترى فيها تحقيقاً لمصالح ذاتية كإضعاف المركز والسعي لتفتيت الدولة إلى دويلات والاستيلاء على الموارد وإبعاد خصومها كالصين وروسيا. إلا أن الحقيقة أن الاهتمام بالسودان كان قد تضاءل كثيراً بعد انفصال الجنوب وذهاب غالب الثروة النفطية معه مما جعل السودان غير مفيد لهذه الدول، مثل الصين. كما لا ننسى أن نضيف أن دولاً بعينها كأثيوبيا وكينيا وجنوب السودان وتشاد ظلت تتواطأ وتتآمر من أجل تعطيل الحلول الداعمة للدولة السودانية لأن لها مصالح قومية متعارضة مع مصالح السودان. وكذلك دول مثل روسيا والولايات المتحدة تفضل أحياناً أن تدير الأزمة السودانية بدلاً من أن تحلها، لما لها في ذلك من مصالح قاصرة النظر وقصيرة الأمد، كبيع الأسلحة وإضعاف الأطراف المتحاربة، دون النظر لموجبات الانحياز للطرف الذي يمثل الدولة.

 

وهناك أسباب أخرى بعيدة عن دول بعينها مثل تقاعس وعدم فاعلية منظمات دولية وإقليمية كالأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي. ولا يغيب عن خاطرنا أن منظمة كالاتحاد الأفريقي قد فقد استقلاليته منذ قيامه لأنه يعتمد على التمويل الخارجي في دعم أنشطته المختلفة، لا سيما المتعلقة بحل الأزمات. فالقاعدة تقول أن صاحب المال هو الذي يملي شروطه.

إذاً لا تقولوا لي أن اللوم يقع فقط على دول استعمارية شريرة، فالسودان ملام والعالم أيضاً ملام. إلا أن تغيير العالم يخرج عن نطاق سيطرتنا لأن العالم لن يتغير فقط من أجل سواد عيوننا، بل المطلوب هو أن نتغير نحن. السودان يحتاج إلى استراتيجية واضحة ليكون جذاباً لهذا العالم.

فالسودان يمتلك ثروات هائلة غير مستغلة (أراضٍ زراعية شاسعة وثروة حيوانية ضخمة ومعادن كالذهب واليورانيوم ويمتلك إمكانيات نفطية غير مكتشفة)، لكنه لا يحظى باهتمام استراتيجي من القوى العظمى مقارنة بدول أخرى.

بلادنا ممتنعة عن أن تجد لها موطئ قدم في دائرة اهتمامات دول كبرى ومؤثرة لأسباب نذكر منها:

1. عدم استغلال الموقع الجيوسياسي للسودان: فالسودان برغم تمتعه بموقع مميز على البحر الأحمر وله إمكانية لصلات وصل قوية بين الدول العربية والإفريقية وبين شرق وغرب أفريقيا، إلا أن السودان تغيب عنه رؤية واضحة واستراتيجيات تساعده على الاستفادة من موقعه المميز.

2. عدم الاستقرار السياسي والحروب الأهلية المتكررة جعلت مخاطر الاستثمار في السودان عالية.

3. الضبابية التي غبشت الأمن القومي السوداني: فضعف الأمن القومي السوداني سببه الأول عدم وضع تعريف واضح له من قبل أصحاب الشأن للمساعدة في تحديد مقوماته، مما يجعل البلاد عرضة للتدخلات الأجنبية التي تُضعف سيادته واستقلاله.

4. عدم الاستقرار الأمني: الحروب بين الفرق المتصارعة وحاملي السلاح تُضعف ثقة المستثمرين والدول. نتيجة لذلك تفضل الشركات والدول استثمار أموالها في دول أكثر استقراراً.

5. غياب حكومة مركزية قوية ومتماسكة ومستقرة قادرة على ضمان اتفاقيات طويلة المدى مع الحلفاء، وهذا يقلل من جاذبية السودان كشريك استراتيجي.

6. ضعف البنية التحتية واللوجستيات، نذكر منها: طرق نقل سيئة وموانئ غير متطورة ومحدودة الكفاءة، وانقطاعات متكررة للكهرباء، وغياب البنية الصناعية، وفساد ممنهج يعيق تنفيذ المشاريع الكبرى. فالذهب السوداني على سبيل المثال لازال يُهرب إلى الإمارات وإلى دول أخرى بسبب غياب أجهزة رقابية وفساد مسؤولين فيها.

7. المنافسة بين القوى الكبرى غير محتدمة في السودان: فأمريكا ومعها الصين لم يعودا يريان السودان ذا أولوية بعد انفصال الجنوب في 2011 وضم غالب نفطه إليه. هذا فضلاً عن أن الصين تهتم بالموارد لكنها لا تريد استثمارات طويلة الأمد في بيئة غير مستقرة، لا سيما بعد عجز السودان عن تأدية ما عليه من التزامات مالية وقروض. وروسيا تركز على الذهب والعسكريات (مجموعة فاغنر و/أو القاعدة العسكرية)، لكن ليس كجزء من استراتيجية كبرى. والخليج يستثمر في الزراعة والأراضي، لكن ليس كمشروع استراتيجي. ومن جهة أخرى، فعلى الرغم من تنافس روسيا والصين على الاستحواذ على فرص الاستثمار في السودان، فإنهما لم تعطيا السودان الأولوية التي يحتاجها في سياساتهما الخارجية، كما أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي ظلوا يراقبون المواقف الدبلوماسية التي تتخذها الحكومة السودانية ويرفعون ضدها الكروت الحمراء وعصا العقوبات الغليظة عند الميل لدول المشرق، رغم أنهم لم يقدموا بديلاً محفزاً (أين الجزرة؟).

8. غياب الاستراتيجية الدبلوماسية الذكية وضعف السياسات الخارجية تضعف المساعي لجذب التحالفات والاستثمارات. كما أن تذبذب المواقف التي تتخذها الحكومة بين المعسكرين الغربي والشرقي (أمريكا/الصين/روسيا) تسبب في ضعف الثقة تجاه الحكومة السودانية. حتى مصر التي ظلت الحكومات المتتابعة ترفع شعار (العلاقات الأزلية معها) فشلت حكومتنا في إنشاء تحالفات طويلة الأمد معها.

ماذا يفعل السودان لكي يحظى بأولوية في الاهتمام العالمي؟

أولاً) مقومات الأمن القومي السوداني

الأمن القومي هو قدرة الدولة على حماية سيادتها ومواطنيها ومصالحها من التهديدات الداخلية والخارجية.

ومقومات الأمن القومي تشمل على سبيل المثال وليس الحصر:

• المقوم العسكري: بإنشاء جيش قوي وهيئة استخباراتية وتطوير أسلحة دفاعية وهجومية تساعد في ردع القوى الداخلية التي تميل لإحداث فوضى والقوى الخارجية التي تسعى لتهديد أمن الدولة.

• المقوم الاقتصادي: تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الاستراتيجية وإنشاء بنية تحتية قوية وقنوات إمداد لوجستي لخدمة التصدير والاستيراد.

• المقوم السياسي: وجود حكومة مستقرة ومؤسسات فاعلة. ويُلاحظ هنا أننا لم نشر إلى مسألة ظلّت تؤرق الساسة الوطنيين منذ الاستقلال، وهي ربط الاستقرار السياسي بالديمقراطية، أي بوجود حكومة منتخبة ديمقراطيّاً. إن الديمقراطية في ظننا ليست شرطاً لحدوث الاستقرار السياسي؛ بل نذهب أبعد من ذلك ونقول إن الاستقرار السياسي النسبي الذي حدث في السودان منذ الاستقلال كان خلال حقب غير ديمقراطية.

• المقوم المجتمعي: إنشاء بيئة مجتمعية متماسكة تقاوم الخروج على المركز ومؤسسات الدولة، مع إنشاء مؤسسات وقنوات تواصل متعددة الاتجاهات (Multi-way) تستوعب كافة المكونات المجتمعية التي ظلت تشتكي التهميش وتعاني منه.

ما الذي يُهدد الأمن القومي؟

رأينا بأم أعيننا منذ الاستقلال قبل ما يناهز السبعين عاماً عدداً من مهددات الأمن القومي، نذكر منها:

• التدخل الأجنبي المباشر وغير المباشر، مثل تدخل السفارات الأجنبية في شؤون البلاد وإقامة علاقات مع عملاء وجواسيس لهم بالداخل؛ ومثل بعثات الأمم المتحدة المتعددة ومنها يونميس ويوناميد ويوناميس ويونيتامس ويونيسفا، ومثل إرسال مبعوثين خاصين للسودان نذكر منهم دونالد بوث وجون غودفري وتوم بيريلو من أمريكا ومنهم نيكولاس كاي و روبرت فيرويذر من بريطانيا. مع العلم أن هؤلاء المبعوثين يسعون في الظاهر لحل الأزمة قيد النظر، وفي الباطن لتحقيق مصالح دولهم بفرض أجندات سياسية تخدمها ولا تتفق مع مصالح وسيادة واستقلال بلادنا. أكثر هؤلاء المبعوثين يحملون لافتات تبين زيفاً أنهم وسطاء سلام ومساعدات إنسانية، مما يجعل الدول الضعيفة تقبل إما مخافة عواقب رفضها أو للحفاظ على أمن وسلامة سادتها.

• الضغوط السياسية والدبلوماسية، كالعقوبات والمقاطعات الدولية.

• التجسس والتدخل الاستخباراتي من دول أجنبية، ويشمل ذلك عملاء داخليين يتلقون التعليمات من سفراء دول أجنبية مقابل مزايا متفق عليها.

• الهيمنة الاقتصادية أو الابتزاز الاقتصادي من دول أو تكتلات خارجية.

• التنافس الجيوسياسي على الموارد أو المواقع الاستراتيجية (مثل الموارد المائية والزراعية والمعدنية).

• الاضطرابات السياسية وضعف شرعية النظام الحاكم التي شهدها السودان منذ سنوات.

• الأزمات الاقتصادية الحادة مثل التضخم والبطالة والفقر.

• ضعف مؤسسات الدولة كالأمن والقضاء والتعليم والصحة.

• الفساد وتفشي المحسوبية وسوء الإدارة.

• انتشار الجريمة والمخدرات وتجارة البشر.

• الاعتماد على الخارج في السلع والخدمات الاستراتيجية كالغذاء والطاقة والتقنيات الحديثة.

والآن دعونا نغوص في جذور الأزمات التي تقوّض وتُضعف الأمن القومي السوداني:

• التدخل الإقليمي في الشأن السوداني (عبر السلاح أو المال أو النفوذ السياسي).

• الهوية الوطنية الممزقة بين الصراعات القبلية والإثنية. يضاف لذلك الانقسامات المجتمعية والاستقطابات الحادة بين فئات المجتمع دون أن يكون لهم مشروع وطني جامع.

• وجود الأجانب غير النظامي في جميع أنحاء البلاد.

• الهشاشة الأمنية المتسببة في التفلتات والمليشيات وانتشار السلاح خارج أطر القوات الأمنية والعسكرية.

• موقع السودان الاستراتيجي مما يجعله مطمعاً لتنافس دولي على السواحل والموانئ.

• النزاعات الحدودية مع مصر (حلايب وشلاتين) وإثيوبيا (الفشقة) وجنوب السودان (أبيي).

• تدفقات اللاجئين من وإلى السودان، وتهريب السلاح والبشر عبر الحدود الواسعة وغير المضبوطة.

• تأثير سد النهضة الإثيوبي على أمن السودان المائي والزراعي، والخيارات الصعبة للموقف السوداني الذي يسعى للتوفيق بين أمنه وأمن مصر المائي من ناحية ومصالح إثيوبيا من ناحية أخرى.

• الجفاف والتصحر والأوبئة وضعف النظام الصحي.

• الهجرة والنزوح الداخلي بسبب الحرب والفقر، مما يخلق ضغطاً على المدن والخدمات المحدودة المتاحة.

• استخدام وسائط التواصل الاجتماعي لنشر الفتن أو التضليل بين المواطنين.

الخلاصة: السودان ليس “غير مهم”، لكنه غير مُدار بطريقة تثير اهتمام الكبار

• موارده كبيرة، لكن غياب الاستقرار والرؤية يجعله فرصة ضائعة، ونكاد لا نقول سائغة.

• الدول الكبرى تهتم بإيجابية حيثما وجدت مصلحة أو فرصة نجاح، والسودان حالياً لا يقدم الاثنين معاً. لو ظهر تنافس دولي حاد على موارد البلاد (مثل الذهب أو الأراضي الزراعية)، فقد يتغير الوضع.

السودان قادر على أن يصبح لاعباً مهماً في الإقليم وفي العالم، لكنه يحتاج إلى حوكمة أفضل وإستراتيجية أوضح لتحويل موارده إلى قوة جاذبة لدول العالم.

السودان يحتاج إلى رؤية استراتيجية شاملة تنطلق من مشروع وطني متوافق عليه، يعالج الجذور لا الأعراض فقط من منظور منظومي، ويوازن بين الوحدة الوطنية والتنوع المجتمعي.

 

وختاماً، من أجل أن يصبح السودان ذا أهمية استراتيجية، علينا ببساطة أن نقوم بالآتي:

1. تحقيق الاستقرار السياسي وتشكيل حكومة قوية.

2. تطوير البنى التحتية من موانئ وطرق وكهرباء.

3. جذب استثمارات كبرى في التعدين والزراعة.

4. التحالف مع قوى إقليمية ودولية (مثل الخليج والصين) بطريقة ذكية.

5. الاستفادة من موقع البلاد كجسر بين أفريقيا والعالم العربي.

غير أن قول ذلك سهل، بينما تنفيذه صعب!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى