ليست مجرد عودة طوعية.. كيف دفعت منظومة الصناعات الدفاعية بقاطرة ملحمة الأمل والإعمار؟

المحقق – عزمي عبد الرازق
كانت (هاجر)، تلك الفتاة السودانية، تغالب دموعها بصمت قاسٍ، وهي تتحفز للصعود إلى الحافلة المتجهة إلى السودان. كل خطوة نحو الوطن تقربها أكثر من الديار التي أُرغمت على هجرها تحت الرصاص والمطر. كانت تظن عند بداية الحرب أن دروب العودة استعصت عليها —مرة واحدة وإلى الأبد— هي ومئات الأسر الذين لجأوا إلى مصر، عبر الحدود، مع بداية توحش هجمات الجنجويد على الخرطوم والجزيرة .. فقط البقاء على قيد الحياة كل ما يهم هاجر وأهلها.
دموع الفرح والوداع
كاد جدار روحها يتمزق من الألم قبل نحو عامين وهي تلوح للبيت، أو يلوح لها: “إنها هجرة أخرى، فلا تذهب تماماً”. فالنيل بعيد جداً وقريب جداً، على حد تعبير الطيب صالح. لكن مشاهد الوداع مساء أمس السبت، على مقربة من قصر عابدين وسط العاصمة المصرية، جسدت قصة وطن لم يمت في ذاكرة أبنائه. وقد تجلى ذلك في رحلات التفويج التي تعهدتها منظومة الصناعات الدفاعية، وتجاوزت المائة رحلة مجانية بكامل خدماتها، لكل الناس دون تمييز، مصحوبة بخدمات ضافية، من زاد وتسهيل إجراءات، ورعاية واهتمام مباشر من الفريق أول ميرغني إدريس، المدير العام للمنظومة.
تنبعث من أحد السماعات الداخلية موسيقى “الطير المهاجر”، كما لو أنها تحث سائق البص على عدم التوقف: “كان تعب منك جناح في السرعة زيد”. وهو ذات الحنين الذي دفع مدير المسؤولية المجتمعية في المنظومة المهندسة أميمة عبد الله لتتجاوز مرافئ القلق، وقصصها القديمة المستوحاة من ذكرياتها في نيالا الأسيرة، تلك الحبيبة الطافية على رماد الحروب، أو إلى حين إشعار آخر، ولذلك فهي تشارك بمحبة وصدق في نجاح هذه الأفواج المباركة، على أمل أن تلحق بها.
هزيمة الحرب وعجلة التعافي
بالمجمل، فإن آلاف الأسر وصلت إلى السودان في رحلات مشابهة، ومبادرات قامت بها جهات متنوعة من منظمات مجتمع مدني سودانية، و رجال أعمال و خيرين، ما سرّع من وتيرة التعافي والسلام. فالحرب التي أشعلتها ميليشيا الدعم السريع بدعم خارجي، وفقاً للمؤشرات الأولية، عملت بصورة متعمدة على تهجير السكان عن بيوتهم ومزارعهم، وإجبارهم على النزوح زرافات ووحدانا، وقطع خيط الأمل نهائياً بالعودة، حيث عمّ الخراب والدمار كل شيء، على وقع تهديدات قائد التمرد: “العمارات دي تاني إلا تسكنها الكدايس”، بل حتى القطط لم تحتمل عنف تلك الدُّهمة المتوحشة.
كسر قيود النزوح الطويل
كان أكثر الناس تفاؤلاً قد رتبوا حالهم للبقاء في الخارج عشرات السنين، وربما أطول من ذلك، كما حدث في المنطقة من تجارب مشابهة، حيث استمرت حرب سوريا نحو 14 عاماً، منذ عام 2011 حتى مطلع العام الجاري، وتسببت في نزوح وتهجير الملايين من السوريين. أما حرب العراق فقد بدأت عام 2003 واستمرت حتى عام 2011. بينما حرب اليمن لا تزال مستمرة منذ عام 2014. وكذلك حرب ليبيا مستمرة منذ عام 2011 أيضاً. والرابط بين تلك الحروب هو الهجرات القسرية، ورحلات النزوح التي استمرت لعقود. لكن الشعب السوداني وقواته المسلحة نجحوا بصلابة في كسر تلك القيود، وهزيمة مشروع احتلال السودان، لتنتهي معاناة ملايين الأسر خلال فترة وجيزة بالمقارنة مع التجارب أنفة الذكر، حيث عاد أكثر من 200 ألف سوداني من مصر طوعياً خلال أقل من عام.
السلطات القنصلية السودانية في جنوب مصر كشفت أن عدد المواطنين العائدين إلى السودان عبر برنامج العودة بلغ أكثر من 200 ألف شخص، كانوا قد نزحوا جراء الحرب ضمن موجات أخرى إلى مصر.
وأكد القنصل العام بأسوان، السفير عبد القادر عبد الله، أن عدد العائدين من مصر عبر العودة الطوعية بلغ 223,641 شخصاً، وهم الذين نزحوا من ولاياتهم إبان احتلال مليشيا الدعم السريع لها. وقال إن هذا الرقم هو عدد الذين عادوا إلى السودان من جمهورية مصر العربية وحدها خلال العام 2024 وحتى العاشر من شهر مايو الماضي، وهو الرقم الذي عززته تقارير منظمة الهجرة الدولية. فوفقاً لتقرير المنظمة السنوي بشأن التوجهات العالمية، فإن 1.6 مليون لاجئ عادوا من الخارج خلال عام 2024، ويعتبر ذلك أعلى عدد منذ أكثر من عقدين في هذه الفئة، كما عاد الأشخاص الذين نزحوا داخل بلادهم، ليسجل عددهم ثاني أعلى مستوى للعودة الداخلية. وقد أشارت تقارير إلى عودة نحو خمسمائة ألف مواطن إلى ولاية الجزيرة عقب تحريرها مباشرة، إلى جانب استئناف الميناء البري لعمله، وصخب الأسواق، وظهور العديد من رجال الأعمال يتقدمون تلك المواكب، وهي كما تبدو في محصلتها النهائية ملحمة وطنية بامتياز، أو بالأحرى حكاية صمود تتجاوز حدود الجغرافيا والزمان، وشاهد على أن التراب الذي احتضن الأجداد ظل ينادي أحفادهم بالعودة.
الأيادي التي تصنع الأمل
في كل مقعد من مقاعد تلك البصات العائدة، تنبض قصة تحدٍ، وعين تتوق لرؤية مدرسة فُتحت أبوابها من جديد، أو مستشفى استعاد عافيته، أو مصنع تتحرك ماكيناته بعرق العمال. كل ذلك بمثابة حياة جديدة حيث تبدأ معارك البناء والإعمار، معارك الأمل التي ستطوي مآسي الحرب، وتكسر قيود الهجرة القسرية، وتؤكد أن السودان يولد من جديد بفضل أبنائه العائدين، ومن يحثهم على ذلك، وهى بلا شك عودة تستوجب تحرك السلطات، والاسراع في إعلان الحكومة لتوفير الخدمات الأساسية، وصناعة الطريق، ما سيغري البقية لإنهاء غربتهم الاضطرارية.
مساء السبت، وفي مشهد يعكس روح المبادرة الوطنية والمسؤولية المجتمعية، انطلقت الدفعة العاشرة من السودانيين العائدين طوعاً من جمهورية مصر العربية. 9 حافلات غصت بأفواج من الرجال والنساء والأطفال، يحملون في حقائبهم المتكدسة قصص لجوء مؤلمة، وفي قلوبهم أحلاماً كبيرة بالعودة والبناء. هذه الدفعة التي تأتي تحت شعار ” نستعيد حياتنا.. نعيد بناء مجتمعنا” الذي أطلقته منظومة الصناعات الدفاعية، تضاف إلى 110 رحلة بص سابقة نظمتها المنظومة، لتشكل واحدة من أضخم عمليات الإسناد المجتمعي خارج البلاد خلال فترة الحرب.
رحلة عكس أمواج النيل
هناك 6 حافلات أخرى سوف تُسيّرها منظومة الصناعات الدفاعية يوم الخميس المقبل، في إطار استمرار هذا التفويج المنظم الذي يستهدف إعادة الآلاف من السودانيين الراغبين في العودة الطوعية بعد أن أجبرتهم ظروف الحرب على الهجرة أو اللجوء المؤقت. وفي لفتة تعبر عن الوفاء والتقدير، رفعت المنظومة لافتة كبيرة كُتب عليها “شكراً مصر”، تقديراً لجهود الدولة المصرية في استضافة السودانيين وتوفير الأمان والدعم لهم، وهي بلا شك روح أخوية ستظل محفورة في ذاكرة السودانيين، رغم صعوبة الابحار عكس أمواج النيل.
مع كل رحلة عودة إلى أرض الوطن، يزداد الأمل في أن يساهم هؤلاء العائدون في مشروعات الإعمار، وأن يكونوا جزءاً لا يتجزأ من هزيمة المؤامرة. كيف ذلك؟ الآراء التي استخلصناها من المودعين والمسافرين تلخص كل شيء: فمن خلال إعادة فتح المدارس التي أغلقتها الحرب، وإحياء المستشفيات التي عانت من نقص الإمدادات والكوادر البشرية، وإعادة تشغيل المصانع، على طريقة عم عبد الرحيم: “يد العامل هي العاد تنتج، ما المكنات الأمريكية”، لتُشعل، بعد ذلك، المدن والقرى والحقول “قمحاً وعداً وتمني”.