رأي

ملاحظات على تسجيلات الدكتور حسن مكي (2)

صديق محمد عثمان

بمنتصف عقد الثمانينات، قدمت الأمانة الثقافية لتنظيم الاتجاه الإسلامي بجامعة الخرطوم مشروعاً لتوثيق تاريخ الحركة الإسلامية كان يستهدف رصد مراحل تأسيس الحركة وذِكر تراجم للشخصيات القيادية التي ساهمت في صناعة أحداث ذلك التاريخ.

وكان يقوم على الأمانة في ذلك الوقت الأخ المهندس محمد الرشيد سعد الصوفي يساعده الأخ المهندس محمد عبد الرحيم جاويش. وكان من بين من استشارهم الأخوان الصوفي وجاويش الشيخ حسن الترابي الأمين العام للحركة الإسلامية حينها، والذي جادل الأخوين حول تعظيم فائدة مجهوداتهما بتحويل المشروع من مشروع تاريخ ورصد إلى مشروع لتقديم كتاب يلقي الضوء على منهج الحركة الإسلامية الذي صنعت به الأحداث.

انتهى الحوار بين الإخوة والشيخ الترابي إلى اتفاق على أن تتبنى الأمانة الثقافية فكرته شريطة أن يتولى هو تحرير مادة حول تفسير منهج الحركة الذي خاضت به تجاربها وتقوم الأمانة بتنظيم منتدى لمناقشتها بصورة دورية وتتولى إعادة تسجيل المداولات والنقاشات ويعيد الشيخ تحرير فصولها تمهيداً لجمعها في كتاب.

هكذا انعقد منتدى أسبوعي بمسجد الجامعة ومعهد الدراسات الإسلامية الملاصق للمسجد، وكان حضوره يتراوح ما بين عشرين إلى ثلاثين شخصاً بينهم قيادات تاريخيّة في الحركة كالشيخ يسن عمر والأستاذ عثمان خالد مضوي والأستاذ محمد يوسف محمد عليهم الرحمة، والعم أحمد عبد الرحمن، ولست متأكداً من حضور العم د عثمان عبد الوهاب لبعض الجلسات، ومن القيادات الوسيطة والشابة – وقتها – دكتور غازي صلاح الدين ودكتور أمين حسن عمر والأستاذ المحبوب عبد السلام وآخرين.

انتهت هذه الجلسات في مايو 1989 حيث قام الأخ محمد الرشيد بجمع المادة النهائية للمداولات يعاونه الأخ المهندس رامي الدرديري وتسليمها للشيخ الترابي الذي أعاد تحريرها في صورتها النهائية، وتابعت الامانة الثقافية طباعة الكتاب في طبعته الأولى وخرجت أولى نسخه المطبوعة للمراجعة النهائية والموافقة بعد انقلاب الأنقاذ مباشرة حيث تم إدخال النسخة المطبوعة إلى الشيخ الترابي في سجن كوبر، وكانت ضمن مجموعة كتب أخرى سبباً في حبسه انفرادياً حيث اعتبر أحد قيادات السجن من ضباط الشرطة أن إدخال كتب لمعتقل سياسي خرقاً لنظم وقوانين السجن وقام بعزل الشيخ في زنزانة منفصلة ومنع عنه الزيارات الراتبة والأوراق والأقلام والكتب.

كان منطق الشيخ الترابي الذي أقنع به طلاب جامعة الخرطوم حينها أن تسجيل التاريخ رغم أهميته فهو مما يمكن لأي باحث مجتهد أن يقوم به ولكن ما دامت الأمانة الثقافية عزمت على هذا العمل فليكن عملاُ فكرياً يشبه وظيفتها. وفي الحقيقة فقد برزت الحاجة الماسة جداً لمثل ذلك الكتاب ( الحركة الاسلامية التطور، الكسب والمنهج) بمجرد انتهاء انتخابات العام 1986 والتي أظهرت الحركة فيها تطوراً كبيراً، ليس فقط في عدد الدوائر النيابية التي أحرزتها (53 دائرة بينها 28 دائرة من دوائر الخريجين) وإنما في قدرتها على المنافسة في كل الدوائر الجغرافية تقريباً، وأظهرت قدرة عالية جداً على التنظيم خاصة في إدارة العملية الانتخابية لدوائر الخريجين التي حصدتها جميعاً تقريباً.

ظهرت الحاجة إلى معرفة منهج الحركة من قبل جهات عديدة أولها وأهمها عضوية الجبهة الإسلامية القومية التي أقبلت على الحركة بعد انتفاضة أبريل 1985 ورغم الهجمة الشديدة عليها من قبل الكيانات السياسية الأخرى، فقد كان مهماً بعد انتهاء موسم الاستقطاب السياسي أن تتعرف الجماهير التي أقبلت على الحركة على منهجها الحقيقي وتدرك أنها حركة تغيير اجتماعي وليست حزباً آخر ينافس الأحزاب ويهزمها ويتقدم عليها.

والجمهور الثاني الذي كان يهمه الإلمام بمنهج الحركة الذي أدارت به معاركها السياسية ومقاربتها للأحداث ومباشرتها مشروعات ضخمة في الاقتصاد والدعوة لا تقل شأناً عن عملها السياسي، كان ذلك الجمهور هو أخواتها من الحركات الاسلامية خاصة العربية منها والتي تسبب موقف التنظيم الدولي الرافض لمنهج الحركة الإسلامية السودانية في العمل وخاصة المصالحة مع نظام مايو، تسبب في قيام حاجز بينها والحركة السودانية رغم ريادة الإخوان السودانيين لمبادرات ومؤسسات العمل الإسلامي في مواقع عديدة في دول المهجر الغربية.

والجمهور الآخر الذي كانت الحركة بحاجة إلى تقديم عمل مكتوب يشرح له منهجها الذي أنجزت به إنجازاتها الكبيرة كان قواعد الأحزاب والكيانات السياسية الأخرى التي أدخلتها قياداتها العليا في صراع مرير مع الحركة انتهى في معظم الاحيان بانتصار الحركة لأن قواعد الأحزاب كانت تجد حرجاً كبيراً في الاستجابة لتوجيهات قياداتها بالدخول في مواجهات مع كوادر الحركة الذين لم يكونوا سوى بعض أفضل أبنائهم هم أنفسهم.

ثم الجمهور الأخير الذي استهدفه كتاب (الحركة الإسلامية التطور، الكسب والمنهج) كان قوى إقليمية ودولية فاجأها التقدم السريع للحركة الإسلامية السودانية وسارع بعضها إلى تحسس وسائله وموارده للتدخل والضغط على السلطة في السودان لمواجهة الحركة كما حدث في زيارة نائب الرئيس الأمريكي حينها جورج بوش الذي أجبر الرئيس جعفر نميري على نفض يده من المصالحة مع الحركة الإسلامية واعتقال قياداتها. ولم تقف مجهودات هذه القوى عند الضغط على السلطة السياسية بل سعت إلى دعم القوى السياسية الأخرى للتكتل ضد الحركة الإسلامية ومناصبتها العداء المطلق. فكان الكتاب خطاب للعقلاء من هذه القوى يشرح أن الحركة وإن كانت لا تساوم في مبادئها فهي ليست حركة تعرف نفسها ضد الآخر وهي ليست مشغولة بالإضرار بمصالح الآخرين ولا تمانع من مناقشة المشروع منها واحترامه على قدم الندية والمساواة الإنسانية المطلقة.

هذه الخلفية مهمة جداً في إلقاء الضوء على منهج الشيخ الترابي في قراءة الأحداث وملاحظة مراحل تطور الحركة واستشراف مستقبل عملها. والقارئ لكتاب الحركة الإسلامية ذلك، سيجد تفسيراً منهجياً ومنطقياً لمسيرة الحركة التي انتقلت خلال عقد الستينات من جماعة ضغط تحاول فرض شعار الدستور الإسلامي إلى جبهة للتواثق على الميثاق الإسلامي ( تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) ولم تكتف بجمع أنصار السنة المحمدية إلى مشايخ الطرق الصوفية بل قدمت نموذجاً جديداً في خطابها للقضايا ولم تكتف بالعمل الجبهوي الواسع بل طورته إلى تحالفات مع كيانات وأحزاب أخرى كان بعضها على النقيض من موقعها.

كيف تجاوزت الحركة عقبة رئيسية في نهاية الستينات أقعدت بعض رصيفاتها من الحركات الإسلامية في جدال حول أولويات التربية والسياسة أو الانشغال باتهامات (الإسلام السياسي) والتطلع للسلطة؟ كيف عالجت الحركة هجمة انقلاب مايو الذي استهدف فض كيانها الجبهوي الواسع والاعتداء على عظم الظهر في كيانها ؟! وكيف وازنت الحركة بين ضرورات تصعيد العمل الجبهوي المعارض لسلطة مايو ومحاذير خدمة أهداف قوى إقليمية لا علاقة لها بالحرص على الأهداف الشرعية المشروعة لمعارضتها هي؟! وكيف ولماذا اشترطت الحركة على النميري الحرية في الحركة والعمل ؟! وكيف استطاعت إقناع أموال وأشخاص مؤثرين في الخليج بتأسيس نماذج جديدة ومستقلة للعمل الاقتصادي والطوعي ؟!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى