رأي

مَن هو المثقف؟

عبد القادر دقاش

مَن يقرأ ينتهي إلى معرفة كل شيء (تقريبا)، هكذا يرى جوزية ساراماغو ..لكن هل من بين هؤلاء تلك النماذج من البشر الاستثنائيين، رفيعي التعليم، الذين يحسنون كتابة نصوص طويلة متقنة حول أشياء مهمة أو غير مهمة، يجذبون بها القارئ إلى حقولهم المغناطيسية، مثيري الاهتمام بسبب سعة اطلاعهم وغرابة أطوارهم في الآن ذاته.

هؤلاء من انتقص انطونيو غرامشي من قيمتهم في دفاتر سجنه .. ومع انتقاصه من قيمتهم إلا أن غرامشي لم ينكر وجودهم واعتبرهم دوما معالم ثقافية مهمة، بغض النظر عن كونهم في أغلب الأحيان جزءاً لا يتجزأ من تركيبة الطبقة المهيمنة.. لكن إدوارد سعيد لم يذهب مذهب غرامشي .. فالمثقف الفلسطيني يرى أن الثقافة هي: قول الحق في وجه السلطة. وهي صرخة البشر في وجه مصيرهم. ويتفق (سعيد) مع المثقف الأمريكي اللامع نعوم تشومسكي، الذي يرى، أن المثقف هو من يحمل الحقيقة في وجه القوة.. فالمرء لا يسعى في الكتابة والكلام إلى أن يبين للجميع كم هو محق، بل إلى محاولة إحداث تغيير في المناخ الأخلاقي يؤدي إلى اعتبار العدوان عدوانا والعمل إما على الحيلولة دون المعاقبة الجائرة للشعوب أو الأفراد وإما على التخلي عنها وترسيخ الإقرار بالحقوق وبالحريات الديمقراطية كمعيار للجميع لا لقلة مختارة يثير تخصيصها الاستياء والضغينة.

إذن ليس المثقف هو الذي يقرأ بعمق ونهم وكثرة، فهذا قارئ وهناك من يمضي حياته كلها في القراءة دون أن يمضي إلى ما هو أبعد من القراءة، لأنه يبقى ملتصقاً بالصفحات ولا يدرك كما يرى (ساراماغو) أن الكلمات ليست سوى أحجار مصفوفة تعترض تيار النهر، وإذا كانت هناك فإنها موجودة لكي تمكن من الوصول إلى الضفة الأخرى، لأن الضفة الأخرى هي المهمة.

وليس المثقف هو الذي يتعلم بعد أن ينسى ما تعلمه في المدرسة، كما يذهب (اينشتاين) ولا الذي يعرف شيئاً عن كل شيء، ولا الذي يغادر حقل اختصاصه، لأن الاختصاص لا يجعل من الإنسان مثقفاً بل يجعل منه مختصاً لأن مجرد العلم حتى لو كان جامعياً، لا يضفي على الفرد صفة المثقف بصورة آلية، فالعلم ما هو إلا اكتساب موضوعي و لا يشكل ثقافة في حد ذاته، إنه يصبح ثقافة بالمعنى الشامل إذا توفر لدى المتعلم الوعي الاجتماعي، ذلك العامل الذاتي الذي من خلاله فقط يصبح الفرد مثقفاً، حتى لو لم يعرف القراءة والكتابة، ومن دونه يبقى أمياً، حتى لو كان طبيباً أو أستاذاً جامعياً.

وليس المثقف هو الخبير لأن الخبراء هم مثقفون مزيفون عديمو النزاهة الفكرية حسب (باسكال يونيفاس) الذى عرى وفضح الأخلاق الخادعة للمثقفين في كتابه، المثقفون المزيفون.

ولكن ما الذي يميز المثقف عن غيره؟ ما يميز المثقف في أي مجتمع صفتان أساسيتان: الوعي الاجتماعي الذي يمكن الفرد من رؤية المجتمع وقضاياه من زاوية شاملة، ومن تحليل هذه القضايا على مستوى نظري متماسك.

والدور الاجتماعي الذي يمكن وعيه الاجتماعي من أن يلعبه، بالإضافة إلى القدرات الخاصة التي يضفيها عليه اختصاصه المهني أو كفاياته الفكرية. فالمثقف إذن هو المنهمك في نزاع مستمر مدى الحياة مع جميع الأوصياء، الذين يشكلون ثقافة الطاعة والسلطة المستبدة والخلاص الشخصي والمنفعة الفردية والاستهانة بكرامة الإنسان ومكانته في الكون وفق منظور يلوي عنق الدين ويخرجه من جادته الأصلية ومقاصده الحقيقية الفذة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى