رأي

مِرْسالُ الدُكْان

مريم عز الدين

في تلك اللحظة تمنيت أن يبتلعني الطريق! بخطوات متثاقلة أحاول أن أمضي قُدُمًا. فتحتُ باب بيتنا وخرجت للشارع في مرسال “للدكان” – اسم عاميٌ يطلق على المتجر الصغير – قُلْتُ: سألقي سلامًا على جارتنا التي تجلس تحت ظل شجرة الهجليج، تُظللها أيضًا غمامات كثيفة…الجو غائم، لطيف مُنعش، الشوارع غُسِلَت بماء المطر، كُلُّ الزرع أخضرٌ زاهٍ كأنه موعود بخير كثير، وكأن “كرري” قد تدثرت بالغيوم وانساب حولها وفي شعابها حفظٌ ورعايةٌ من الله. كل ما حولها رماد وهي مخضرةٌ، هائمةٌ مسرورة بكل تفاصيل فصل الخريف. أما أنا وبرغم كرم أرض كرري وبرغم كرم السماء…ما أردت حتى أن يراني أحدٌ ولا أن أرى أحدًا…

ولأن سنة الإسلام السلام، نهضت بكياني نهوضاً وقلت لجارتنا السلام عليكم .. كيف حالكم…نظرت لأكياس التسالي (مُكسرات مشهورة في السودان تُباع معبأة في أكياس صغيرة) تنتظر من يشتريها…ولغصن النيم المميز الذي تحمله لتُبعد به الذباب عن بضاعتها…قلت لها: كيف مزن؟…هي ابنتها الصغيرة التي تتكفل بوردية الصباح وأحيانا المساء…أرى في الطفلة صبراً …أرى فيها سعياً…

أرى في الأم والطفلة، كلما خرجت للخارج…سوداناً يُثقلني ويُرهقني…كلما رأيت مزن لابد أن أفكر في بلدي وفي مستقبل أطفاله…

انتهى تثاقلي بعد تبادل السلام هذا، وسرت واثقةً لجلب الغرض المطلوب…حديث متسارع مع “سيد الدكان” الذي أسأل نفسي، كيف لتاجرٍ أن يُتاجرَ وكلُ شيء “مُشقْلب” في البلد !!! لكنه تاجر جيد…استطاع أن يتميز على الجميع ويجلب الزيتون! زيتون في “دكان الحِلّة” …أحيانا أشعر أنه إنجاز إقتصادي!

رجعت، هذه المرة تداعبني نسائم الأرض وكأنها تقول لي: “ااااه هوني عليك…خففي عن نفسك…تحملين هم بلد بأكملها وكأنك مسؤولة عن رياحها وغيثها وفيضانها وجسورها وبيوتها، عن جهلها ووعيها، عن أطفالها وشبابها”…حتى “عمو” الذي لا يرد السلام وهو يجلس تحت ظل شجرة بيته العملاقة…تفكرين، هل هو في ضيق ما؟ لماذا لا يكترث لشيء….ألا يرهقه النظر للمارة ذهابًا وإيابًا؟؟

أتجاوزه في طريقي للدكان…لكنني هذه المرة ما وجدته…عساه بخير!…أتممت المشوار برغم ثقله وأنا أنظر للكم الكبير من الأطفال الذي انتشر في حارتنا، يبدو أنهم قد أتوا نزوحاً من أماكن غير مستقرة… وهم لسبب ما مشاكسون جداً.

قابلت محمد، ابن جارتنا الأخرى…قبل عدة أيام وبسبب شقاوته، سقط من سقف منزلهم. الطفل لا يجد ما يملأ به وقته…ترى الأطفال في الشارع مثل محمد تائهون…فاجأني هذه المرة وسلّم علي، إذ قد كنت من يبادر بالسلام…هذه المرة سبقني. يبدو أن لتحية السلام تأثيرًا لا يُضاهى! يجمع هو في حجارة من أمام المنازل ويتناقش مع صديقه … يرسمون خطوطاُ متناثرة على أرض الشارع… يبعثرون ما يجمعونه من حجارة ثم يجمعونها ثم يبعثرونها… ويصبح الشارع شاهداً…

حجارة مبعثرة، عود نيم، بقايا ماء مطر، رمل رطب، زرعٌ منتعش، خطوط مرسومة على الأرض، مُشوّشَة! محمد، مزن، أم مزن، عمو الذي لا يرد السلام، سيد الدكان، أنا، “بتاع الرصيد” ( باعة يجلسون في أكشاش صغيرة لبيع أغراض صغيرة، من ضمنها رصيد للهواتف الجوالة)، أطفال، الكثير من الأطفال، أمهاتٌ تائهات…والشوارع تشهد علينا محتفظةً بعود النيم، وبالخطوط التي رُسمت بأيدي أطفال، تعبيراً عن فراغ قد ملأ الوقت وملأ الشخصيات…لكنه ما ملأ الكون شيئًا…فسننه تعالى لا يغيرها حادث!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى