رأي

نحن الذين قُبرنا هُناك!!

أميمة عبد الله

صرير الباب الثقيل وهو يفتح، عتبات السلم إلى الأعلى وضوء الشمس الباهر الساطع. أبعد عامٍ إذاً !!

عميت العيون لدقائق، أربعة عشر شهراُ داخل قبرٍ مرفوع السقف قليلاً، أخرجوني مع ثلاثة آخرين، جاهدت أن أمد لهم يدي للوداع إلا أنها ثقلت كما لساني كما خطواتي، ولا هُم اهتموا لوداعي، كانوا زائغي البصر شاردي الذهن ساهين، وكنت وكأنني في السبعينات بلا عصا أتوكأ عليها ولا رفيق درب، يهدّ جسدي المرض والهوان، تائهين كنا إلى أين نتجه، رغم ضوء النهار إلا أننا لا نعرف قبلتنا ولا اتجاهنا، وأنا أتلمس المشي كطفلٍ على بداية عهده بالوقوف، أجاهد لأبتعد، وصلتني  أصوات ضحكاتهم، ليست كأصوات البشر ولا لغتهم التي يصرخون بها ولا أيديهم كأيدي البشر ولا هم، وجوههم المغطية بالشعر، ملابسهم التي تفوح منها رائحة كريهة كأنها رائحة جثة.

الطريق غريب مقفر، السماء شاحبة والأبواب كلها مشرعة والنوافذ، صوت الريح كأنه آتي من عالم الجن، لا أثر لإنسان، البيوت فارغة من أهلها والمساجد بلا مآذن والمآذنُ بلا أذان، بيوت بلا أسقف ومباني وحوائط مهدمة، هياكل سيارات محروقة، وأعمدة كهرباء مثقوبةٌ بالرصاص وملابس وأواني مشتتة على طول الشارع و على الأرض بقايا الحريق وهواء معبأ بالرماد،

وعيونُ بالكاد ترى وقلب مذهول وسؤال أبهذه البلاد ضمير؟! يا رب السموات على مآل الحال.

أربعة عشر شهراً ما رأينا فيها ضوء شمس يتسلل من نافذة ولا نور قمر يآتي من شق حائط، ولا كنا نعرف أين نحن، فقط ضوء لمبة خفيض ينبعث من مكانٍ ما، قبر كبير جمعنا، فصلنا عن الدنيا وأهلها، مائة أو أكثر من الناس، شباب ورجال تجاوزت أعمارهم الأربعين وشيوخ لم يتبق لهم في الدنيا كثير، أغلبهم غلب عليه حزنه وأحنى القهر ظهره فغادر قبرنا إلى قبره، وصبيان بين الخامسة عشر والسادسة، محشورين كنا في ذلك القبو في أحد المنازل ذات الطوابق.

كنت كما الجميع هنا، بعيدي المعرفة عما يدور بين أهل الحكم والأحزاب، تنافسهم وخلافاتهم ومؤتمراتهم، لم أكن أهتم بأخبارهم لا على الراديو ولا على التلفاز، أخرج صباحا إلى عملي في مستشفى الزهرة على أطراف الحي، أو هو بالأحرى مركز صحي، وكان الحي ذاته على أطراف مدينة الخرطوم الغربية، ولو كنت أعرف ما ينتظرنا لاهتممت بالأخبار أكثر ولذهبت إلى ميدان الرابطة للإستماع لما يقولون ولتابعت أسفارهم وتحالفاتهم، ولو كنت أعرف لما وثقت بالحكام أبداً. إلا أن كل همي كان أن أتخرج من الجامعة وأكمل السنة النهائية بتفوق يمكّنني لاحقاُ من إيجاد وظيفة محترمة تشبه أحلامي، الآن لا أحلام ولا حياة ولا ناس ولا بلد.

ولو كنت أعرف أن الحرب ستقوم في قلب السودان لما إنتظرتها هنا حتى يداهمني هؤلاء، من هم؟ لا أدري، صنف من البشر لم أقابله من قبل وما ظنت أن مثلهم يمكن أن يعيش هنا بيننا، بين بشر وشياطين هم، من هذا الجنس الخليط جاءوا، غير مكتملي الأعضاء، فلا قلب ولاعقل، يقتلون للتسلية ويضحكون للأذى، ويسعدون لهتك العِرض، ويعيشون بين الدود والجثث ويأكلون كما لو أنهم لتوهم أكتشفوا أنواعه، يسرقون بعضهم ويغدرون.

كيف كان هؤلاء هنا؟! ومنذ متى هم هنا؟! يا عجبي على قدرك يا بلدي!!

نشبت الحرب فجأة كما يشب الحريق في القطية، لهب ونار مستعرة، دون ان نستبين حقيقة الأمر، ظننا أنه لن يعدو أيام وينتهي، ثقتنا كانت لجهلنا في التقدير الصحيح لما يدور من حولنا، لذا ما فررنا ولاخطر ببالنا أن نترك منازلنا ، ثلاثة أشهر كاملة تحت الحذر، أنقطعت الكهرباء عن عموم الأحياء في تلك النواحي، وبدأ الناس بعد الشهر الثاني يتسللون ليلاً، تاركين منازلهم وحالهم، المحلات لا تفتح  أبوابها إلا ساعتين خلال النهار وصرت الطبيب الوحيد في المركز رغم انعدام الأدوية، غادر بقية زملائي، بقيت معي خالتي زينب، تفتح المركز كل صباح و تنتظر معي، لا تفارقني، وكنا نحاول أن نعالج الأمراض الطارئة ما استطعنا، وفي صباح يوم خميس كنت جالساً في باحة المركز تحت ظل النيمة اقرأ، وإذا بهم يأتون، كنت حتى ذلك الوقت أسمع فقط عنهم، حطموا بوابة المدخل بعربتهم العسكرية، أوقفها أمامي مباشرة، قابضاً على الفرامل بقوة، لإخافتي فعل ذلك، بعدها اقتحم البقية المكان، كانوا  يصرخون، ومن فزعي تجمدت أطرافي وما أستطعت الوقوف، أحدهم أخذ من يدي الكتاب وقذف به، وأخر أطلق النار على الخالة زينب، فوقعت من فورها والدماء تسيل من رأسها، وأخر لم يمهل ذهولي ثانية إضافية، أوقفني بقبضة يده القوية، لم أفهم كلامهم ، لكنهم كانوا يضحكون فيما بينهم، أحدهم صفعني فوقعت أرضا، علا ضحكهم وهم يشيرون إليّ، رفعوني ثم بدأوا يتناوبون الصفع والركل، لطمني أحدهم بقبضة يده على أنفي حتى سال الدم منها وفمي، رفعوني بسهولة ورموني داخل صندوق عربتهم وهم يصيحون ويضربونني بهراوة معدنية على ظهري.

– أنت مع الجيش تنقل لهم الأخبار، أنت جاسوسهم.

آخيرا تحدث أحدهم بكلام أفهمه

إلا أن الشجاعة ما واتتني لأصحح له كلامه، فجأة صمت كل شيء، والهروات على رأسي وبدأ بصري يخبو وقلبي يصمت.

أستعدت وعيي في ذلك القبر بين العشرات من الناس، الزحام ورائحة العرق، الدماء والبول والرطوبة والعفن، أفاقتني الرائحة، ومن هول الصدمة ما استطعت السؤال.

هل يمكن أن يألف الإنسان القبر والظلام والموت؟ لقد ألفناه هنا.

كنت مرمياً قرب بابٍ مغلق، ما تبقى مني هنا في مكانٍ مظلم تماماً أو هكذا بدا ليّ. أين أنا؟ كنت مشوشاً، ألم رهيب على صدري وأضلعي ووجهي، كنت أحس بعطش شديد وجفاف على حلقي. أحدهم وكأنه قادم من الجحيم، فتح الباب بضجيج وصوت يثير الأعصاب، صرخ فينا محذراً من لا شيء، فقط قال

– حذاريكم

هكذا، ثم أغلق الباب بذات الضجيج. أين أنا؟ هذه جهنم بذاتها.

أسلحتهم التي لا تفارق أكتافهم، عمائمهم الملونة وصفعاتهم على وجوهنا بكل عنف الدنيا، حاجتهم التي يقضونها كيفما كانوا، لا يهتمون للستر ولا يعرفونه، كانت كفة أيديهم تهبط على وجوهنا وكأنها قطعة حديد مشرشر وليست من لحم لبشر.

– هل هؤلاء هم الذين يقاتلون الآن؟ هل هم من يقاتلوننا ليحكموننا؟ يا ويلنا إن إنتصروا؟

ولأنني كنت طبيباً، تيقنت أنني لن أخرج من هنا سليماُ.

بدأت عيناي تبحث في الظلام عن كوب ماء وأنا أبصق دمي، أو جرعة فقط لأخفف من جفاف حلقي، وعلى زحمة الموجودين لم يكن هناك صوت، كلهم صامتين، لا حركة، رجف جسدي. قبض على قلبي خوف حاد كما يقبض النسر بمخالبه الحادة على فريسته.

جرعة ماء، إلا أنها كانت أغلى ما يُطلب في هذا المكان. وبدل الماء فُتح الباب ودخلوا، يحملون سياطاً ملفوفة بخيوطٍ معدنية، يضربون دون تمييز ونحن نستقبل سياطهم بلا روح ولا نفس، روؤسنا للأسفل وأرواحنا معلقة في السماء، وبدأت أتحرر من أغلى ما عندي، رحلت روحي عني وغاص الجسد في الغياب.

وعلى الحائط المقابل قرأت من بين لسعات السياط، أننا لا محالة واقعون في الثقب الأسود ولن ننجو قريباً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى