نعم لا وألف لا للحرب ، ولكن!!!

الرفيع بشير الشفيع
(1)
المراقب البسيط للحروب التي وقعت على السودان وعلى كاهل شعبه منذ تأسيس الدولة السودانية الحديثة في أوائل القرن السادس عشر ، 1505م ، أيام قيام مملكة سنار ( الإسلامية)، على أنقاض الدويلات المسيحية المقرة وعلوة، اللتان ورثتا السودان الكوشي الواحد والذي وحّد وادي النيل وحكمه من حدوده الجنوبية إلى ممفيس، وقد تلت الحرب الصهيونية التي قادها محمد علي باشا، الألباني، على دولة سنار ، حرب أخرى لا تقل ضراوة عن الحرب الدينية والإثنية على مملكة سنار وهي الحرب التي قادها الأستعمار الغربي – الصهيوني بقيادة بريطانيا هذه المرة.
ولم تنقطع الحروب على السودان قُبيل وأثناء وبعد نشأة دولة السودان الحالية في 1956م وإلى كتابة هذه الأحرف، وسوف لن تنقطع عنه ما دام السودان والشعب السوداني يرفع رأسه عزيزاً مكرماً ونبيلاً.
(2)
كانت الحروب ما قبل 1956م خارجية إستعمارية غزوية خالصة ، لكن الاستعمار بعد استبدال أسلوبه المباشر، والمكلف في الأرواح والإدارة والاقتصاد بالنسبة له ، آثر نوعاً من الاستعمار الحديث ، الاستعمار بالوكالة colonization by proxy، وقد جند لذلك جنوداً وجيَّش جيوشاً محلية في المنطقة، وفي السودان تمثلت في الأحزاب الشيوعية، وبنات أفكارها العلمانية ، والتي يسميها السودانيون الآن بأحزاب ( قحط )، والتي أبدلت جلدها حديثاً بمسمى وشعار جديد أيضا هو “تقدم”.
(3)
وعلى أن ممثلي “تقدم” الذين قاموا بثورات شبيهة بروح ونهج (ثورة اليعاقبة الفرنسية الصهيونية الدموية التي قادها روبسيير قائد اليعاقبة – (من مسمى يعقوب عليه السلام) ، وهي جماعة دموية لا تقل سوءا عن داعش وعن مجرمي حرب التتار الحادثة على السودان الآن).
بدأت هذه الثورات المحلية ” بقيادة الحزب الشيوعي بعد الاستقلال في 1964م تمخضت عن إنقلابهم في مايو 1969م وإنقلابهم عليه ، في 1971م ، ثم محاولة انقلاب ( مشترك) في 1985م انتهى بالإنقلاب عليهم في 1989م واسقاط مشروعهم، ومحاولة إنقلاب منهم أيضا في 2013م باءت بالفشل ثم الإنقلاب الأخير في 2018- 2019م على نهج الثورة الفرنسية نفسها، والتي آلت لدكتاتورية عالمية أخرى قادها نابليون وحارب بها كل العالم ، باعتبار أن نهج الثورات اليعاقبية الصهيونية والعلمانية عندهم، هي ثورات دموية لا تقوم إلا عبر تدمير الأخضر واليابس وانتهاك الحقوق وإلغاء الأعراف والتقاليد بل حتى التشريعات وكل الأعراف الدينية والإنسانية على النهج الثوري العلماني- الصهيوني ، كما حدث ويحدث عندنا الآن في السودان.
(4)
لكن الحرب هذه المرة، تختلف تماماً، وجاءت بصورة أكثر دموية، كحرب استراتيجية، فكرية ، آيديولوجية شاملة .
الذي يعدد واجهات هذه الحرب الشاملة ،؛منذ بداية 2019م يمكنه أن يُعدد الواجهات التالية على الوطن والشعب وجيشه:
1- واجهة الحرب النفسية، الإعلامية التي تم تعيين جهابزة الإعلام العلمانيين لها والتي أسست لخطاب الكراهية لإثنيات ومناطق معينة، في الشمال والشرق والغرب والوسط، وحاربت كل القيم والأخلاق ومرتكزات التدين والثقافة وجذور الإرث الثقافي والحضاري واللغة السائدة، وروجت للثورة ودموية الثورة ولشيطنة الشباب والحرب على التأصيل والقيم والحياء والعادات.
2- واجهة الحرب الأخلاقية والتي أصر القائمون على أمر الثورة بتصدير وجلب أسوأ القيم والأخلاق والعادات العلمانية سيئة السمعة وإنهاء حالة الاعتدال والمحافظة في أخلاق وقيم الشعب، ومحاربة كل القيم الدينية والعادات الحميدة .
3- واجهة الصراع الطبقي ، الإثني والمناطقي والديني والحزبي حيث تم اختراق الأسر السودانية ودور العلم والمؤسسات والأحزاب والنقابات، وتم زرع وصناعة جيل وقبيل يقوم بدعم الثورة وشعارات الثورة ، ويحدث من خلاله التفتيت الجغرافي والمناطقي والأسري والحربي والمؤسسي، وتفتيت إرادة الدولة وسيادتها ، عبر النظرية الماركسية الصراع الطبقي Clashes of classes ، استخدمت فيه شعارات (التهميش، مثلث حمدي ، جلابة ، غرابة وكل ” عدة” الشيطنة).
4- الواجهة الإقتصادية للحرب ، والتي حاولت حكومات الفترة الإنتقالية منذ 2019 والى سقوطها في 2023م ، حاولت إرجاع السودان لمربع المحكمة الجنائية والآيباك والمقاطعات الإقتصادية ووصمه بالإرهاب وقد اتضح ذلك من إصرار قيادة الفترة الانتقالية حينها ، بتدوير اتهام السودان بضرب السفارتين الامريكيتين في تنزانيا وكينيا وبضرب السفينة الأمريكية في عدن ، وهذه التهم قد برأت السودان منها المحاكم الأمريكية نفسها ، ولكن لأجل جمع مال للثورة fund raising ، قد باعت قيادة الثورة ، قحط السودان ببضع دريهامات خداعاً وتسويفاً وتزويراً.
ثم بدأت عملية اليعاقبة السودانية ، في التدمير الشامل لكل البني التحتية وانتهاب الحقوق والأموال والممتلكات بواسطة لجنة التمكين على قرار ( لجنة التأميم) أيام حكم الشيوعيين في عهد نميري والتي تم بواسطتها تأميم كل الشركات الخاصة الكبرى ومن ضمنها مصانع النسيج وغيرها، إضافة لتدمير المؤسسات الإقتصادية والمالية ونهب مدخراتها ونهب البيوت والشركات والمؤسسات التعليمية ، بإعتبار أن هذا هو بالضبط ما تفعله الثورات العلمانية، وهذه واجهة آخرى أكثر إيلاما لهذه الثورة.
5- واجهة البندقية ، وهذه هي الحرب التي تطالب قيادة ثورة 2019 بإيقافها، وهي واجهة واحدة من عشرات واجهات الحرب الشاملة ، والشعب السوداني يتهم الذين يرفعون شعارات ، أوقفوا الحرب “، و ” لا للحرب ” هم نفسهم الذين أسسوا لحرب البندقية مستخدمين آلة الدعم السريع ليضربوا به عدة عصافير في آن واحد، أولها أهم مؤسسة وطنية قومية متمثلة في الجيش، وثانيها الشعب المتمثل في القوى الوطنية التي رفضت مشروع علمنة الدولة وانتهاك حقوق الشعب في ممتلكاته وقيمه ودينه، وثالثها، مقدّرات الوطن والمتمثلة في بنيته التحتية الأخلاقية والقيمة والاقتصادية والتنموية والتي يتهم فيها الشعب من يطالب بإيقاف واجهة واحدة لهذه الحرب الشاملة وهي واجهة البندقية، يتهمهم فيها بمحاربة الوطن بالمقاطعات الإقتصادية وتأليب العالم عليه وتشويه سمعته والعمالة عليه وبيعه في سوق النخاسة العالمية منذ 1983م والى آخر مؤتمر بنعقد منذ يومين في أديس أبابا ، لا يعلم إلا الله وحده عقابيل ومآلات ذلك المؤتمر.
السؤال الذي يطرح نفسه ، لماذا يصر أصحاب هذا المشروع التدميري الشامل بمختلف واجهات الحرب فيه ، على إيقاف الحرب ( الآن)، وقد طالبوا بحرب أخرى لا تقل ضراوة عن حرب البندقية وهي الحرب النفسية والمعنوية والعملية على الجيش مطالبين بإعادة هيكلته وتغيير عقيدته ( الوطنية ، القومية) لتصبح عقيدة متماهية مع عقيدة هذه الحرب الشاملة ومع مشروع تحرير السودان وعلمنة الدولة ، و(خصي) جسارة ووطنية الجيش ليصبح جيشاً ( مخصي الفكر والقومية) ومنحل العرى لكي يتماشى مع خيبات المدنية العلمانية الخنثوية المائعة؟
وسؤال آخر ، هل يعني هؤلاء إيقاف حرب البندقية ( الآن ) في منحنى النصر الغالب لصالح الجيش والشعب ، ولماذا؟
وسؤال آخر ، هل يعني هؤلاء أن الذين يطالبون بإيقاف الحرب وعلى الرغم مما صنعوا بالبلاد والعباد هم الأحق بالرجعى لحكم السودان على كومة رماد الوطن وتهجير شعبه واغتصاب نسائه وانتهاب حقوقه وامتهان كرامته ، أم ماذا؟
نعم لا للحرب … وألف لا، ولكن.