واجهات الحرب: الثغرة الرباعية -“الواجهة الحضارية، الدينية والإثنية

الرفيع بشير الشفيع
4 ديسمبر 2024
(في التعليق على الرسالة العظيمة التي وجهها د. عباس أحمد الحاج ، للدكتور أمل الكردفاني بسبب تبخيس الأخير للشعب السوداني كما يبدو).
أغلب ما كتبه الدكتور عباس أحمد الحاج في رسالته للدكتور أمل الكردفاني صحيح ، وقد كتبنا عن أثر الإرث الحضاري للسودان والأثر السوداني في تكوين الحضارات الأفريقية والمساهمة في كل حضارات العالم القديم، وكتبنا عن أثر رسالة السودان الدينية، ومساهمته وعلاقته الإثنية منذ عهد سيدنا إبراهيم (هاجر) و سيدنا موسى (زوجته الكوشية) وخلاف ذلك، عشرات المرات، من خلال منشورات منظمتنا الجنوب أفريقية – السودانية سوكارا ومنذ سنين.
الآن ظهرت عملياً وبصورة جلية ، واحدة من أهم واجهات الحرب (تعتمد الحرب على الرسالة الدينية، والإرث الثقافي والتاريخي والإثني) ، وهذا العمق الرباعي يؤثر في تماسك الهوية، وكل هذه منافذ دخل بها شياطين الإنس منذ أوائل الثمانينيات يفتتون بها عضد الدولة السودانية.
وبقدر من التركيز على ما نسميه بالواجهة الدينية، نجد أن أصحاب مشروع (الاقتلاع والتجريف والإبدال) قد استخدموا هذه الواجهة كلما يقومون بثورة ويتمكنون من رقبة الوطن، فيركزون على الملف الديني ويحاولون اقتلاعه، ومحاولتهم هذه المرة هي الأسوأ، وقد رأينا تجريفهم للجامعات (بدأوا بالإسلامية أولاً) وحرقوها وحرقوا كل إرثنا الديني، وقد ظلوا يقومون بذلك تاريخياً اعتباراً من قيام مملكة سنار والسلطنة الزرقاء باعتبار أنها أول دولة إسلامية رسالية في العمق الأفريقي – المسيحي ، غطت حضارة وادي النيل من جنوب السودان إلى أسوان ، وأنهت آخرة دولة مسيحية (علوة).
وتفريطنا في تقديم مملكة سنار على أنها دولة سودانية – خلاسية الإثنية والأصل الحضاري (العربي الأفريقي)، زاد طين السودان بلة.
ونلاحظ أيضا التجريف الأخلاقي والقيمي والرسالي المتعلق بالدين والإرث الديني والحد من تأثيره على أفريقيا، بل استبداله من خلال الجانب الأخلاقي الغربي، من الأجندة العلمانية (أجندة سيداو) وكان فرض هذه الأجندة ووقعها فجأة على شعب مسلم ومؤمن ورسالي ، وقعاً مدهشاً وقاسياً وغير مقبول، وهو جزء كبير في المساهمة في رفع السلاح ضد المشروع.
أما حين ننظر إلى الواجهة التاريخية، بشقيها (التاريخ القديم ، والوسيط)، ومع عدم تخصصنا في التاريخ القديم (للأسف) واجتراحنا له بسبب الحمية الوطنية تحريكه من هذه الناحية ، لتأثيره الكبير في أسباب الحرب ومجرياتها وتشكيل الوحدة الفكرية ، والعسكرية الأفريقية لهذه الحرب ، فقد طالبت علماء التاريخ القديم والوسيط بتحريك ملف التاريخ حتى يواجهوا به هذه الجزئية من الواجهة الرباعية لكنهم للأسف تمسكوا (بالمهنية القوالب التي وضعها الغرب) وتمسكوا بحفظ (النص التاريخي) وجمود تحريكه، وغرتهم المكانة والسمعة العلمية، وقوالب المنطق التاريخي، ولم يفلحوا بالخروج عن النص في مواجهة وسد هذه الثغرة، واشتغلوا (باكات) ينتظرون (الكرات الملتهبة) للدفاع (متى ما بدا لهم الرد) ، مع أنهم يعلمون أن هذه الثغرة موكولة لهم وأنها أمانة أخلاقية ووطنية، وأنها لا تسد سياسياً ولا عسكرياً، لكنها تمثل الأمن التاريخي مثلها ومثل الأمن الغذائي والإقتصادي والأمن الإعلامي، وللأسف تحركهم في هذا الجانب ضعيف جداً، وقد هزمنا من هذه الناحية بغفلتها الرسمية (التعليمية)، والتربوية الوطنية عن هذا الملف التاريخي والثقافي والإرثي، وعلى مر كل الحكومات لأنهم لم يأبهوا لهذه الثغرة التي استفاد منها العدو ولا لطريقة هدم هذا الملف الإرثي العظيم.
و تحريك ملف التاريخ القديم، بعمل شبكات اتصال ومنظمات وحراك إعلامي وبحثي ودبلوماسي رسمي وشعبي وخلق قنوات للتواصل الأفريقي، والعربي ، لإيصال الثقل التاريخي والحضاري والثقافي لعمق السودان التاريخي الإثني والجغرافي القديم والوسيط والذي يمتد من شمال السودان جنوبا مرورا بتأسيس حضارات البحيرات العظمى والدول المحيطة بها وتأثيره في حضارات غرب وجنوب وشرق أفريقيا المتمثل في المساهمة في تأسيس وبناء الحضارات بموازاة البحر الأحمر وحضارة حضرموت وسبأ وشمال المنطقة العربية (الحضارة الإسماعيلية) ثم بناؤه حضارات جنوب القارة (حضارات زيمباوبوي الكبرى – المابونغوبوي- المشتركة بين جنوب أفريقيا (أزانيا) وزيمبابوي وموزمبيق وزامبيا وتنزانيا وزانزبار) والمكون الإثني لهذه الحضارات (البوشمن والزولو وقبائل منطقة الليبموبو، والسوازي والفندا والفاقارة المنحدرة عبر رحلة “الزنج- لاحظ كل الدول المذكورة بها حرف الزاي – Z – كمعنى لرحلة الزنج) – ولنا دراسات ومشاهدات عملية وقد أقامت منظمتنا مؤتمرات لتتبع الحضارة الجنوب أفريقية لمهد حضارتها the civilizations cradle إلى شمال السودان (من خلال زيارتنا ومحاضراتنا في السودان وجنوب أفريقيا في 2015 – 2016).
نتحدث عن أهمية إبراز هذه العلاقة التاريخية والإرث الحضاري ، للدول الأفريقية والعربية وللعالم على السواء، لتحريك هذا الملف إيجابيا لخدمة السودان والدول الأفريقية، ليس لربط أفريقيا مع السودان كوحدة تاريخية وحضارية بداية من أقصى شمال القارة إلى جنوبها وغربها فحسب، إنما لتصحيح الرؤية والقناعات لبعض الدول الأفريقية التي حدت بها لمعادات السودان، ولتصحيح سياستها في أهمية ومساهمة السودان في بنية الهوية الأفريقية الجامعة (البانآفريكانيوم) والنهضة التاريخية الأفريقية ودور السودان الأساسي والرئيسي فيها وفي مساهمات السودان كدولة رائدة في التحرر الأفريقي، ومساهماته في تحرير أفريقيا، من خلال رفد حركات التحرر الأفريقي وبناء منظمة الوحدة الأفريقية (الإتحاد الأفريقي حالياً – السودان وغانا والحبشة هي الدول المؤسسة للوحدة الافريقية – إقرأ كتاب الديمقراطية في الميزان للمحجوب).
إن عدم تحريك هذا الملف الأفريقي ، وإهمالنا له، فتح علينا الإبتلاء بحرب الطوف، بسبب المفاهيم الأفريقية الخاطئة (بأن السودان الشمالي – عربي فقط ، مع أنه كوشي أفريقي ، عربي الهوية والخلاسية الأكبر في القارة الأفريقية التي يحق لها أن تكون أهم بوتقة – أفريقية – عربية)، ولإهمالنا لهذه الملف ، فقد رأينا كيف أن بعض المنظمات الأفريقية التي أسسناها، تنقلب علينا تسومنا سوء العذاب بحشد جيوشها ومليشياتها، تساهم في حرب السودان بشتى الطرق ، والخطأ هنا يرجع لنا نحن في السودان، وقد سمحنا لبعض دول الجوار أن تختطف بريق حضارة وادي النيل والحضارة الكوشية وتقدم نفسها بها أفريقيا وعالمية وتجني ثمار ذلك أمناً وتضامنا وأقتصادا وسمعة حضارية فارهة لكنها فارغة تماماً.
والسودان يسقط في المنطقة الوسطى، بين تجاذبات العروبة والآفريكانية، ويجني ويلات العزلة، والابتلاءات، بسبب التقصير فيما ذكرناه عاليه، وبسبب التقصير في إبراز بنية الهوية (الخلاسية الإثنية) في جانبها العربي أيضاً، وكأننا لسنا أهل هاجر وكأن حضارة كوش لم تساهم في بناء حضارة شمال الجزيرة العربية وبناء حضارة حضرموت وسبأ (إقرأ سفر التكوين the Genesis) الذي يعتبر أن سبأ بن كوش ، ومع شكوكنا في نية واضعي سفر التكوين لأسباب دينية حضارية لتوسعة إسرائيل ، ووضع اليد على منطقتنا، إلا أن العلاقة بين حضارة حضرموت وأمها الحضارة الكوشية وحضارة مآرب وتكوين دول غربي البحر الأحمر وشرقيه تتشابه في اللون والحس والذوق والوحدان وتداخلها في هذه الأمور يعطي إشارات واضحة في تأسيس الحضارات في جانبي البحر الأحمر والمرتبطة أيضا برحلة الزنج عبر البحيرات والى الغرب والجنوب الأفريقي.
كما أن التداخل الإثني والديني والتاريخي الوسيط، منذ دخول صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخول العرب السودان، يمثل امتداداً للحضارة السودانية في منطقة بني شنقول وقبلها منذ أيام ملوك النجاشي ودخول العرب للسودان وحوض وادي النيل شرقه وغربه يشي بوحدة وتماسك خلاسية السودان العربية – الأفريقية، المتمثلة في وحدة اللون والوجدان بين قبائل تلك المنطقة، وتداخل الحضارة الإريترية والليبية القديمة ، والحضارة النوبية، كلها تمثل كتلة بنيوية ديمغرافية، حضارية واحدة ،ولو كره الشانئون.