واقع التطور الصناعي في السودان: معضلات غياب تطبيقات المنهجية العلمية للإدارة مع غياب التخطيط الإقتصادي الإستراتيجي

د. عبدالرحمن السلمابي
مشكورين الأساتذة في منصة “المحقق” الإلكترونية على إهتمامهم الملموس و المحمود بمشاكل القطاع الصناعي و إجراء حوار مع الأستاذة الوزيرة محاسن على يعقوب.
و قد نجد في ثنايا مجريات الحوار ملامسة سطحية للمعضلات و المشاكل التي تواجهها عموماً الصناعة كمرتكز مهم للتنمية الإقتصادية، و خصوصاً بعد التدمير الممنهج من قبل القوات المتمردة و خروج ما يقارب 90% منها حسب تقديرات وزارة الصناعة..
و لكن التعمق في جذور المشكلات و إعادة التأسيس قد يكون أفيد لموضوع التنمية الصناعية كأحد أهم مرتكزات التنمية الإقتصادية و المجتمعية مستقبلا…
ولا بد لنا من دراسة كافة المعضلات التي تقف حجر عثرة أمام انطلاق القطاع الصناعي التنموي و التي قد يكون أهمها غياب تطبيقات المنهجية العلمية للإدارة مع غياب التخطيط الإقتصادي الإستراتيجي، بحيث لا فكاك منهما، و يشكل الإثنان معاً وجهان للعملة الواحدة …
و قد نجد غياب مرتكزات الإدارة العلمية عياناً بياناً في تصريح السيدة الوزيرة حيث مثلاً ذكرت ” *تكلفة إعادة إعمار القطاع الصناعي كبيرة جداً و الوزارة لا تستطيع رصدها كاملة في الوقت الراهن”* …
و لعل استدلالات الإفادة تشير إلى إستحالة الإدارة بحيث من أبجديات علم الإدارة الحديثة تكمن في “أن ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته” …
(If you can’t measure it , you can’t manage it)…
و لعل حديث الصراحة هذا يفيد أن ليس للوزارة الإتحادية سلطان و لا معرفة دقيقة بعدد و أنواع الصناعات المشيدة سواء في ولاية الخرطوم أو الولايات الأخرى … و هذا خلل بنيوي في هيكل تنظيم إدارة الصناعة، و لعله ناتج من التطبيق غير المدروس “أو الصوري” للحكم الفيدرالي بحيث تم توزيع الإختصاصات و الصلاحيات و بعثرتها في الولايات و الوزارات والإدارات المختلفة و المتناقضة الأهداف أحياناً …
بينما كان في السابق لوزارة الصناعة كامل الصلاحيات والسلطات على تصديقات ومنح التراخيص لقيام كافة الصناعات بحيث يمكنها من منع تمركزها و توزيعها على مناطق الأقاليم … فقد حظي في السابق الإقليم الأوسط (ولاية الجزيرة) بقيام منطقة صناعية أخرى في “الباقير” و كان يمكن قيام ثالثة في الإقليم الشمالي أو رابعة في (ولاية نهر النيل ) أو الشرقي أو غيرهما … وهذا قد يوضح بعض ملامح الأهداف الإستراتيجية لمركزية قيام التنمية الصناعية المتوازنة عبر منع التصاديق أو التراخيص الصناعية في داخل ولاية الخرطوم وتوزيعها على الأقاليم والمناطق المجاورة، و بين توزيع صلاحيات منح التصاديق الصناعية لحكومات الولايات لجذب التصنيع بداخلها كما سعت بذلك ولاية الخرطوم و ضربت بعرض الحائط موضوع التنمية المتوازنة و جعلت العاصمة قبلة للهجرات السكانية و ما أفرزته من خطورات أمنية و اقتصادية ماثلة كما في حالة حدوث الحرب الحالية … أى وضعنا كل البيض في سلة ولاية الخرطوم الواحدة …
ثم تلى ذلك مشكلة بعثرة سلطات منح التصاديق حيث تحولت ولايتها إلى وزارة الإستثمار الإتحادية و التي قيل عنها أيضاً أنها مهتمة فقط برسم السياسات العامة بينما لوزارة أو إدارات الإستثمار في الولايات كامل السلطة لمنح التصاديق بقيام المنشآت و المشاريع الإستثمارية شاملة للصناعة و الزراعة و الخدمات و غيرهم …
و إن كان من محاسنها شمولية مفهوم التنمية الإقتصادية لكل الضروب الإقتصادية و كذلك السعي نحو العمل وفق النافذة الشاملة عبر وجود مفوضين مختصين من الخبراء في الصناعة و الزراعة و الخدمات و من الأراضي لتسهيل و تشجيع الإستثمارات خصوصاً في ولاية الخرطوم … و قد يُقال إن التنافس في منح التسهيلات ربما ناتج عن مفهوم تعظيم الجبايات دون حدوث التنمية الإقتصادية الحقيقية و افتقادها عدم المتابعة اللصيقة لمعالجات ما هو مستجد من عقبات ..
و لكن الواضح أيضاً من المحاسن إن بعض الولايات إستفادت من مفهوم لامركزية السلطات في داخلها بتجميع المفوضين من وزاراتها وإداراتها المختصة لمراجعة ومنح التصاديق و التراخيص مطبقة نفس مفهوم الحكم الإقليمي التفويضي اللامركزي كما في العهد المايوي مع عدم شموليته لواقع التخطيط و التنمية الإقتصادية لكل منطقة أو إقليم حسب مميزاته الإستثمارية …
لذلك من الأفضل مستقبلا إعادة مركزية منح التصاديق الإستثمارية مع تطبيق اللامركزية التفويضية كما في السابق مع الأخذ في الإعتبار إضافة شمولية الإستثمار في كافة المجالات شاملة الصناعة …
لقد ورد ما يشير الى دمج وزارتي التجارة و الصناعة في وزارة واحدة و من الأفضل ضم وزارة الإستثمار إليهما لتوحيد الهيكل المختص بالتنمية الإقتصادية الشاملة …
و في منحنى التخطيط الإستراتيجي للتنمية الإقتصادية شاملة للتنمية الصناعية يجب ملاحظة أن كل دول العالم اتجهت و تتجة نحو تشجيع الصناعات المتكاملة العملاقة لما لها من فوائد إقتصادية معلومة …
فما ذهبت إليه السيدة الوزيرة صحيح فيما يلي صناعة السكر و الأسمنت بحيث هى من الصناعات المتكاملة أى (Backward andforward intergrated industry) فمثلا صناعة السكر تبدأ من ايجاد المواد الخام الزراعية ثم تصنيعها و تعبئتها و بيعها للمستهلك … و يلاحظ عدم إهتمامهم كثيراً بموضوع المستهلك و رغباته في شراء عبوات صغيرة مما إتاح الفرصة لقيام شركات تعبئة صغيرة … و لكن تلاحظ أن شركة سكر كنانة بدأت في إنتاجية عبوات للخمسة أو العشرة كيلو بدلاً من من الاكتفاء بالعبوات الكبيرة التي كانت سابقا 100 كيلو و صارت 50 كيلو أكثر شيوعا … و نتمنى ان ينتجوا عبوة واحد كيلو مستقبلا … و كذلك شركات الأسمنت يمكنها من إنتاج عبوات أقل لتسهيل حملها …
أما الصناعات الحالية كما في الخرطوم فهى عبارة عن مجرد صناعات تحويلية يتم إعادة تعبئتها للسوق المحلي ،،، و هذه ليس بذات فائدة كبيرة للإقتصاد التنموي .. و تعني شراء و إستيراد خام “بلك” مثل الشاي و العدس و الأرز و لبن البدرة ثم إعادة تعبئتها و تغليفها و تسويقها …
إذا ضم وزارة التجارة تتيح كامل الفرص لمعرفة الكميات المستوردة من العدس و الأرز و لبن البدرة و حتى التوم و تشجيع قيام الشركات التحويلية المصنعة لها بالولوج نحو زراعتها أو الزراعة مع تربية أبقار الألبان و اللحوم و بعدها صناعة تعبئتها للإكتفاء الذاتي تم التصدير و تشجيع ذلك الإتجاه لإيجاد القيمة المضافة لها … أما ما تقوم به الآن فهو مجرد صناعات تحويلية تجارية و كان سابقا تقوم بها بقالات الأسواق و الأحياء حين تعيد التعبئة في أكياس ورقية أو بلاستيكية للعدس و الأرز و السكر و لبن البدرة و الشاي من الصندوق كما كان سابقا…
أما يلي صناعات الحديد و سيخ البناء فأهم إستراتيجية لها هو الولوج لصناعة تعدين الحديد الخام ثم تحويله للمواد الإستهلاكية المطلوبة …
الموضوع قد يحتاج لتبني فكرة إقتصادية جديدة قوامها ريادة حوكمة الدولة للصناعات أو الضروب الإقتصادية للتنمية أي كانت ،،، مع العمل بمفهوم خصخصة الإدارة و استجلاب خبراء حتى و لو عالميين و تغيير العلاقة الإنتاجية كما مارسته شركة سكر كنانة …
و لنبدأ بشركات السكر الأخري و نطبق مفاهيمها الإدارية الناجحة ثم الدخول أو تشجيع الدخول مع القطاع الخاص عبر بيع أسهم الشركات الناجحة لمن يرغب من الأفراد أو شركات القطاع الخاص … ثم وضع حصيلة البيع في صندوق إستثماري دوار للدخول في تنمية صناعية أخرى…
التنمية الإقتصادية في دولة ماليزيا بدأت في التركيز على ثلاثة محاور إقتصادية الأولى صناعة زيوت النخيل من النخيل المستورد من نيجيريا و الثانية صناعة البترول و الثالثة الخدمات السياحية مع الاهتمام بصناعة المطاط و التعدين القائمة آنذاك و مازالت …
يمكننا الآن وضع خطط إستراتيجية مثلا لتطوير صناعة السكر الذي لنا فيه نجاحات مقدرة و زيادة مصانع إنتاجه كما هو مقدر له بدخول مشروع السوكي و النيل الأبيض مع محاولة زراعة نباتات السكر المحلي مثل استيفيانا و غيره للسيطرة على إنتاجه عالميا عبر الإكتفاء الذاتي منه و التصدير … مثله مثل الصمغ العربي و الزيوت النباتية و الماشية و القطن …
و قد كانت لنا صناعات متقدمة في الصناعات القطنية و كذلك في المدابغ للجلود فيمكن مراجعتها …
المهم قد يضاف إلى ذلك الولوج إلى الصناعات التعدينية مثل إنتاج الحديد الخام و الكروم و الأسمنت و غيره … و محاولة الاكتفاء الذاتي و التصدير …
و الله المعين و المستعان ..