الملايين يهربون من سعير الحرب بالسودان، إلا أن فظائعها ماتزال تمسك بتلابيبهم

بقلم فينبار أوريلي/VII لشبكة CNN
تشاد – أدري
خلال العام الأخير من حياتها، تمكنت نعمات أحمد ذات الأعوام العشرة من الهرب بجلدها من سعير الحرب الدائرة حالياً بالسودان وأهوالها بما في ذلك موجات من الهجمات ذات الطابع العرقي ضد مجتمعات قبيلة المساليت في منطقة دارفور غرب البلاد.
في إحدى تلك الهجمات، قُتلت جدة نعمات بطلقة مميتة وأصيبت أختها الكبرى. لكن نعمات تمكنت أخيرا من الهرب رفقة الدتها وتسعة من أشقائها خارج السودان عبر طرق طويلة أقام أفراد من قوات الدعم السريع شبه العسكرية عليها نقاط تفتيش وحواجز ونصبوا عليها كمائن يسرقون ويغتصبون ويفتكون بالمدنيين الهاربين.
وكانت جثث القتلى متناثرة على جنبات الطريق.
تمكنت نعمات وعائلتها من عبور الحدود إلى أدري في شرق تشاد، حيث انضموا إلى أكثر من 900 ألف آخرين فروا من العنف والجوع في السودان إثر اندلاع القتال بين جيش البلاد القومي وقوات الدعم السريع في أبريل 2023. وقد فر أكثر من 13 مليون مدني سوداني من بيوتهم هرباً من العنف والجوع، الأمر الذي أدى لوقوع أكبر أزمة نزوح في العالم.
وانضمت نعمات وعائلتها إلى مخيم مؤقت للفارين من الحرب في أدري، حيث أصبحت تعيش رفقة 200 ألف لاجئ سوداني آخر في ظروف معيشية قاسية وجوع مزمن ونقص في مياه الشرب وفقًا لوكالات الإغاثة العاملة في المنطقة.
وعندما مرضت نعمات في أوائل أغسطس، كانت والدتها، خديجة إسحاق عبد الله، قد خرجت لمنطقة نائية تبعد عدة أيام للعمل في حراثة مزارع الدخن علها تكسب ما تعيل به أطفال اسرتها العشرة. تقول السيدة خديجة عبد الله إنها عندما عادت إلى الراكوبة والملجأ المصنوع من الحطب ومشمعات البلاستيك، وجدت ابنتها نعمات لا تستطيع المشي أو الكلام إذ لم تأكل ابنتها أو تشرب كثير شئ خلال أيام.
كان هطول الأمطار الغزيرة يعني أنها مضطرة إلى الانتظار يوماً آخر قبل أن تنقل نعمات إلى عيادة قريبة تديرها منظمة أطباء بلا حدود الخيرية الطبية. عندما وصلوا، كانت نعمات بالكاد قادرة على السير على رجليها وكانت تكافح من أجل التنفس. وقد وجد الأطباء أنها مصابة بالدفتيريا وورم في حلقها وكانت فوق ذلك تعاني من الجفاف الشديد.
وظلت خديجة عبد الله في حالة من الصدمة وهي تتابع الأطباء وهم يكافحون لأجل إنقاذ حياة ابنتها نعمات. إلا أن نعمات فارقت الحياة قبيل ساعة من غروب شمس الخامس من أغسطس. و جرى مواراة الجثمان في ذلك المساء في بقعة رملية بالقرب من غابة من الشجيرات بجانب المعسكر.
وهكذا يموت المدنيون في الحرب الأهلية في السودان. ليس فقط بالرصاص والقنابل، ولكن أيضاً من جراء الجوع المزمن والعطش والمرض والنزوح المتكرر وظروف المعيشة المزرية. إن محدودية الوصول إلى الرعاية الصحية تعني أن المرض والجوع يؤديان إلى وفيات بطيئة ومؤلمة وكان بالامكان منعها. ووفقاً للجنة الإنقاذ الدولية فإن “التقديرات المحافظة تقول إن الصراع أدى إلى قتل ما لا يقل عن 15500 شخص، إلا أن بعض التقديرات تشير إلى قتل 150 ألف مدني، وما زالت الأعداد في تزايد مستمر.”
لقد دمرت الحرب طرق التجارة والمزارع والبنى التحتية الزراعية والمستشفيات. ويواجه نحو نصف سكان البلاد البالغ عددهم 50 مليون نسمة حالياً أسوأ أزمة جوع في العالم، مما ينذر بمجاعة كارثية من النوع الذي لم نشهده منذ المجاعة الإثيوبية في ثمانينيات القرن العشرين.
وتمتلئ العيادات الصحية في شرق تشاد بالأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الشديد، ويقول اللاجئون الفارون من دارفور الآن إن الجوع، وليس العنف، هو السبب الرئيس لرحيلهم. وقد تم أعلان المجاعة في شمال دارفور في أغسطس، وحذرت وكالات الإغاثة من أن ما يقرب من 222 ألف طفل سوداني قد يموتون جوعاً خلال هذا العام.
لاجئون يروون الأهوال التي عايشوها
إن هذه الحرب تغذيها مجموعة من القوى المتنافسة التي تتصارع على بسط نفوذها الإقليمي وعلى الوصول إلى موارد البلاد مثل الذهب. وقد قامت الإمارات العربية المتحدة، وهي حليف رئيس للولايات المتحدة الأمريكية، بتسليح ودعم ميليشيات قوات الدعم السريع بينما قدمت إيران وروسيا أيضاً أسلحة للأطراف المتحاربة، وفقاً لتقارير عديدة.
وشنت قوات الدعم السريع حملة عنف جديدة وصفتها منظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمات أخرى بصفة التطهير العرقي في دارفور، التي عانت من إبادة جماعية سابقة قبل عقدين من الزمان. كما أفادت شبكة سي إن إن بأن قوات الدعم السريع وجماعات الميليشيات العربية المتحالفة معها تستهدف وتقتل الجماعات غير العربية في دارفور. لكن المجموعات شبه العسكرية نفت هذه المزاعم.
إلا أن اللاجئين السودانيين في شرق تشاد يتحدثون عن هذه الهجمات الأخيرة بصراحة صادمة. و تقول جواهر عبد الرحمن، وهي لاجئة تبلغ من العمر 24 عاماً من قبيلة المساليت، إنه في مايو 2023، هاجم مسلحون يرتدون زي قوات الدعم السريع منزل والدتها في الجنينة، وأطلقوا النار داخل الغرف، مما أسفر عن مقتل جدتيها ، وتم إحراق جثتيهما.
وتقول إنها كانت مختبئة الي جوار سور عندما أطلقوا النار عليها في رأسها بينما أصيبت شقيقتها في الركبة واليد. كما قُتل ابن شقيق جواهر عبد الرحمن بالرصاص.
كانت جواهر عبد الرحمن حاملاً في ذلك الوقت. وقد ساعدتها والدتها وابنتها في النهاية على الهروب إلى شرق تشاد على طول طريق مليئة بجثث القتلى. وقُتل زوجها، الذي فر بشكل منفصل، في طريق الهروب. قال الذين فروا معه إنه أصيب برصاصة في كمين ليلي نصبه رجال ميليشيات من قوات الدعم السريع.
وفي النهاية، نُقلت جواهر عبد الرحمن، في بعض الأحيان على درداقة يدوية، إلى عيادة أطباء بلا حدود في أدري، حيث عولجت من إصاباتها. ولكن وبعد مرور عام، ما تزال مشلولة جزئياً في جانبها الأيمن. كما فقدت حاسة الشم وتعاني من صداع شديد.
وصفت رشيدة إبراهيم آدم، 28 عاماً، كيف اغتصبها جندي يرتدي ملابس قوات الدعم السريع في يونيو 2023. حيث حاصرها أربعة رجال مسلحون بينما كانت تبحث عن متعلقاتها التي تركتها خلال هجوم سابق على مخيم للنازحين. وقالت إن أحد الجنود قال لها”أنتو بنات المساليت، لازمن تلدن أولاد عرب”، مضيفة أن جنديًا أدخلها بالقوة إلى غرفة بينما كان الثلاثة الآخرون يحرسون الباب. وقالت إن الجندي احتجزها لمدة ساعتين تقريباً واغتصبها أربع مرات. وعندما انتهى، قال لها: “أمشي من هنا. ما ترجعي تاني”.
نعيمة مطير مهاجر، 8 سنوات، تقف في مخيم للاجئين في فرشانة. قالت والدتها إنها تعرضت لإطلاق النار من قبل رجال مسلحين يرتدون زي قوات الدعم السريع.
وقال عبد الله الحاج عبد الله، 18 عامًا، إنه كان في منزله في نوفمبر عندما جاء مسلحون يرتدون زي قوات الدعم السريع لنهب المنازل في الحيّ الذي كان يسكنه. لم يكن يمتلك لا هو و لا عمته وست أخوات أي شيء يستحق أخذه، لكنه قال إن جنديا من قوات الدعم السريع أطلق النار عليه في فخذه. وقامت عمته بتنظيف الجرح وحملته على ظهرها في بعض مراحل طريق الرحلة إلى شرق تشاد. وبينما كانوا يسافرون على الطريق المحفوف بالمخاطر سيرًا على الأقدام وعلى ظهر حمار، قالوا إن جنود قوات الدعم السريع أطلقوا النار عليهم وأصابوا أربعة فتيان آخرين كانوا يسافرون معهم. كما اخذوا منهم هواتفهم وأمتعتهم، إلى جانب القليل من الماء الذي تمكنوا من حمله. وبُترت ساقه المصابة عندما وصل إلى عيادة أطباء بلا حدود في أدري. كان عبد الله يحلم بان يصبح ذات يوم لاعباً لكرة قدم. لكنه الآن وبينما ينتظر فرصة الحصول على ساق اصطناعية، أصبح يمضي الوقت في لعبة فيديو لكرة القدم من على هاتف جوال. وتتواتر مثل هذه الروايات القاتمة لدى العديد من اللاجئين من دارفور.
وقد ارتكبت قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية التابعة للحكومة جرائم حرب في السودان، وفقًا لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، إلا ان بلينكن وجه الاتهام لقوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك القتل والاغتصاب وأشكال أخرى من العنف الجنسي. وقال إنهم مسؤولون أيضًا عن التطهير العرقي في دارفور.
ولكن حتى التقارير الواسعة النطاق والبارزة عن الفظائع الجماعية والأزمة المتصاعدة ذات الأبعاد القاسية لم تفعل شيئًا يذكر لإيقاف حرب السودان حيث لا يزال العالم منشغلاً بالصراعات القديمة المعرضة لخطر التصعيد في أوكرانيا والشرق الأوسط.
وتقول الأمم المتحدة إن جزءًا ضئيلًا من الأموال اللازمة للتعامل مع أزمة السودان قد تم توفيره.
“لقد تعامل العالم مع السودان كأزمة غير مرئية، ونادراً ما تناولتها الصحافة العالمية”، وفقا للسيد توم بيرييلو، المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان،في حديثه الى لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الامريكي في مايو.
وفي مواجهة اللامبالاة العالمية، اضطر اللاجئون السودانيون إلى الدفاع عن أنفسهم. ويجري المحامون الذين فروا من دارفور مقابلات مع زملائهم اللاجئين في شرق تشاد، ويجمعون شهادات الشهود على الهجمات ذات الدوافع العرقية. وفي عيادة صحية مؤقتة في أدري، يعمل العاملون الصحيون والأطباء الذين فروا من دارفور كمتطوعين، ويعالجون مئات المرضى أسبوعياً من الملاريا وسوء التغذية وأمراض أخرى.
في المعسكر ترى الطبيبة السودانية فايزة حامد ، في الوسط، والطبيبة الإسبانية لارا ريفيرو علي، إلى يمينها تحاولان إنعاش حيدرة أتيم البالغة من العمر 10 سنوات، والتي كانت تعاني من التهاب القصبة الهوائية والصدمة الإنتانية، بينما يتابع والد الصبي بنظره، زكريا أتيم، في عيادة في ميتشي، تشاد.
وتوفي حيدرة بعد بضع دقائق من اخذ الصورة له.
في ذكرى نعمات
في الأيام التي أعقبت وفاتها، أقامت عائلة نعمات أحمد مراسم حداد و” كرامة” على روح الطفلة البالغة من العمر 10 سنوات، حيث ساهم الجيران بما في وسعهم لتغطية تكلفة شراء سخلة تم ذبحها تكريمًا لها. ولأيام عدة تقاطر الأهل على راكوبة العائلة لتقديم العزاء.
كانت نعمات طويلة بالنسبة لعمرها وكانت تحلم بأن تصبح مدرسة. وتحدثت عائلتها عن مرحها وحماسها في القيام بالاعباء المنزلية التي يتجنبها أشقاؤها، وخاصة جلب المياه.
قالت شقيقة نعمات الكبرى، فردوس، 21 عامًا إن نعمات “كانت ترتدي حذائي وتختلس “طوكة” شعري و تلفوني، وكنت بزهج شدييد منها. لكن هسع أنا فاقداها صحي صحي. كانت تنوم جنبي”.
وصفت والدة نعمات ابنتها بأنها كانت “بنية مبسوطة” تحب الضحك والمزاح.
” كانت طيبة شديد معاي، وكانت طوالي تونسني وكت أكون مهمومة”، قالت. “كل فجر كانت تفتح عيونها تفتشني وين . هسع خلاص رحلت”.