(فيتجنشتاين) Wittgenstein.. فيلسوف الثقافات المتعددة**

وائل الكردي
(تناقض فلسفة (فيتجنشتاين) تيار الساينتيزم هذا الذي اجتاح عصرنا. (ري مونك) يشرح لماذا لا تزال فلسفته ذات جدوى).
يعتبر (لدفيش فيتجنشتاين) Ludwig Wittgenstein لدى الكثيرين … أعظم فيلسوف في القرن العشرين. فقد أسهم كتاباه الرئيسيان (رسالة منطقية – فلسفية) Tractatus Logico – Philosophicus و(بحوث فلسفية) Philosophical Investigations اسهاماً كبيراً في صياغة وتشكيل التطورات اللاحقة في الفلسفة لاسيما في الاتجاه التحليلي. وقد ألهمت شخصيته الفريدة الفنانين وكتاب المسرح والشعراء والأدباء والموسيقيين وحتى صناع السينما مما جعل شهرته تتجاوز إلى مدى بعيد حدود الحياة الأكاديمية. وبالرغم من هذا فإن فكر (فيتجنشتاين) قد أحدث تأثيراً ضئيلاً جداً في الحياة الفكرية لهذا القرن. فكما لاحظ هو نفسه أن نمط تفكيره قد تعارض مع الطابع العام الذي ساد عصرنا الراهن. فكتاباته – على حد تعبيره – قد ناقضت الروح التي شكلت التيار الغالب للحضارة الأوروبية الأمريكية والتي ينتمي هو ونحن إليها. الآن وبعد وفاته بما يقرب من خمسين عاماً يمكننا أن نلمس بوضوح أكثر من إي وقت مضى أن ما كان قد انتابه من الشعور بأنه يسبح ضد التيار كان له ما يسوغه. وإذا نحن أردنا وصف هذا التيار بمصطلح واحد فلنا أن ندعوه بـ (الساينتيزم) Scientism وهو التيار الذي يرى أن أي سؤال مفهوم عقلياً يكون لديه فقط اتجاهين في الاجابة عليه، إما أن له إجابة علمية، وإما أن لا إجابة له أصلاً. وقد سعى (فيتجنشتاين) نحو معارضة هذه الرؤية.
ويمكن القول بأن تيار (الساينتيزم) يتجلى في أشكال وصور عديدة. ففي ميدان الإنسانيات على وجه الخصوص قد اتخذت (الساينتيزم) الشكل الذي يعمل على ترسيخ القناعة بأن الفلسفة والأدب والتاريخ والموسيقى والفنون لا يمكن دراستها إلا على النحو الذي يقوم به الباحثون في العلوم بالاقتفاء الصارم للخطوات التي ترسمها لهم مناهج البحث العلمي. ولكن هذا الادعاء قد يؤدي إلى تراكم مقدار كبير من الكتابات الأكاديمية الرديئة والتي تتألف من نظريات غير حقيقية وتخصصات وهمية كما تتولد عنها مصطلحات فنية زائفة. وما كان من (فيتجنشتاين) إلا أن بعين الأسف إلى هذه التطورات.
وفي الواقع أنه يوجد العديد من الأسئلة التي لا نجد لها اجابات علمية، ليس لأنها على درجة عالية من العمق أو أنها من قبيل الأسرار المغلقة أمام الأفهام، ولكن ببساطة لأنها ليست أسئلة علمية. وهذا يشمل الأسئلة المتعلقة بالحب والفن والتاريخ والثقافة والموسيقى، أي – في الحقيقة – كل تلك الأسئلة المرتبطة بمحاولة فهمنا لأنفسنا بصورة أفضل. وحيث يوجد شعور شائع اليوم بأن الهاجس الكبير في زماننا هذا هو أننا نفتقر إلى نظرية علمية في الوعي Consciousness، فلذلك بتنا نلحظ ظهور مجهودات عظيمة مشتركة تضم الفيزيائيين وعلماء الحاسوب وعلماء نفس المعرفة إضافة إلى الفلاسفة ليخلصوا إلى إجابات موحدة على الأسئلة التالية:
ما هو الوعي؟ ما هي الذات؟ إن واحدة من الدعامات الأساسية لمجال الساينتيزم الصاخب هذا هو النظرية المقدمة بواسطة (روجر بنروس) R. Penrose والتي تقول بأن تدفق الوعي يتوالى على نفس إيقاع جسيمات فيزياء الكوانتم Quantum الموجودة في الدماغ. وتشير نظرية (بنروس) إلى أن لحظة الوعي يتم انتاجها في المخ بواسطة البروتين الفرعي Sub-Protein والذي يسمى (تبيولين) Tubulin . وهذه النظرية التي تمثل إسهاماً شخصياً لـ (بنروس) إنما تعد نظرية تأملية وتقصي أموراً كثيرة باعتبارها من قبيل الشاذ المستحيل. ولكن إذا افترضنا أن نظرية (بنروس) هذه نظرية صحيحة، فهل نحن – في المحصلة النهائية – سنكون قد فهمنا أنفسنا على نحو أفضل؟ وهل النظرية العلمية هي السبيل الوحيد للفهم ؟ وإن لم تكن، فما هي السبل لأخرى ؟
(فيتجنشتاين) يجيب عن هذا بما أحسب أنه الفتح الأكبر له. فبالرغم من أن فكر (فيتجنشتاين) حدثت فيه تغيرات جذرية بين عمله المبكر وعمله المتأخر إلا أن موقعه المناهض للساينتيزم ظل ثابتاً. فقد كتب أن الفلسفة “ليست نظرية بل هي فاعلية Activity”، وإنها – أي الفلسفة – تناضل من أجل جعل المفاهيم أكثر وضوحاً. ففي (الرسالة) يؤكد على أن هذا الوضوح إنما يتحقق من خلال الفهم الصحيح للصورة المنطقية للغة Logical form of languauge، وأن هذا الوضوح بمجرد أن يتحقق فإنه يميز بذلك ما يتبقى من الأمور التي لا يمكن التعبير عنها. وهذا ما قاد (فيتجنشتاين) إلى تشبيه قضاياه الفلسفية بالسلم الذي يتم طرحه أو التخلص منه بمجرد الانتهاء من استخدامه في الصعود عليه.
ولقد تنازل (فيتجنشتاين) في عمله المتأخر عن فكرة الصورة المنطقية هذه وما يتبعها من تصور للصدق المطلق. فهو الآن يعتقد بأن الاختلاف بين العلم والفلسفة إنما هو تمييز بين صورتين مختلفتين للفهم، نظرية ولا- نظرية. حيث يمكن تحصيل الفهم العلمي من خلال تكوين الفرضيات والنظريات واختبارها. أما الفهم الفلسفي – من الجهة الأخرى – فهو مصمم بصورة لا- نظرية. فما ينتج لنا من جراء الفلسفة هو “الفهم المؤلف من رؤية الأشياء في ارتباطاتها الاتصالية seeing connections” . فإن الفهم اللا- نظري هو ذلك النوع من الفهم الذي يتحقق لدينا عندما نقول أننا فهمنا قصيدة شعرية أو مقطوعة موسيقية أو شخص ما أو حتى جملة لغوية . ولنأخذ مثالاً بحالة طفلة تتعلم لغتها الأصلية، فهل عندما تبدأ في فهم ما يقال لها يكون سبب ذلك أن لديها نظرية جاهزة؟ يمكننا قول ذلك إذا كان لدينا نحن نفس الشيء – وكثير من اللغويين وعلماء النفس يقولون بهذا – إلا أن هذه ليست هي الطريقة الصحيحة لوصف ما يجري. إن المعيار الذي نستخدمه للقول بأن الطفلة تفهم ما يقال لها هو أنها تتصرف بصورة سلوكية تبعاً لذلك الفهم لديها، فمثلاً يظهر أنها تفهم العبارة التالية: “ضعي هذه القصاصة الورقية في سلة المهملات” بكونها تنفذ فعلياً هذا التوجيه .
أما المثال الآخر والمحبب جداً إلى (فيتجنشتاين) هو فهمنا للموسيقى Music. إذ كيف يمكن الجزم بفهم مقطوعة موسيقية معينة؟ فربما يكون ذلك بأدائها على نحو معبر أو باستخدام الأساليب المناسبة من أنواع المجاز في وصفها. ثم كيف يمكن شرح ما هو “الأداء المعبر؟” فهذا ما استلزم من (فيتجنشتاين) أن يقول بأنها مسألة (ثقافة): “فإذا نشأ شخص ما في ثقافة معينة فبالتالي فهو يستجيب للموسيقى بنحو معين، حينئذ يمكنك أن تعلمه استخدام عبارة (أداء معبر)”. وما نحتاج إليه في هذا النوع من الفهم بكونه نمطاً في الحياة Form of Life، هو مجموعة من الممارسات المجتمعية المشتركة بالإضافة إلى قابلية سمع ورؤية الروابط الاتصالية القائمة بين المنتمين لهذا النمط في الحياة.
وبهذا فإن ما يصدق على النغم يصدق بالمثل على اللغة العادية. فيقول (فيتجنشتاين) في (بحوث فلسفية) أن “فهم جملة ما هو أقرب شبهاً بفهم مقطوعة موسيقية مما يمكن أن يتصوره الشخص”. إن (الفهم) لجملة ما يحتاج أيضا إلى الانتماء إلى نفس النمط للحياة ونفس لعبة اللغة Language-Games الخاصة بهذا النمط. فكذلك الحاسبات الآلية لا تفهم الجمل ليس من جهة أنها تجري عمليات تفتقر إلى المركبات العصبية بشكل كاف، وإنما بسبب أنها ليست – ومن غير الممكن أن تكون – عضواً في الثقافة التي تنتمي إليها تلك الجمل. فإن الجملة لا تكتسب معناها من خلال العلاقة المتبادلة بين الكلمات والموضوعات، وإنما تكتسب معناها من خلال استخدامها الفعلي من جانب البشر الذين تجمعهم حياة واحدة.
كل هذا قد يبدو معلوماً صدقه بالضرورة، حيث أن (فيتجنشتاين) نفسه قد وصف عمله بأنه (مقالة فيما هو معلوم صدقه بالضرورة). ولكننا عندما نفكر بطريقة فلسفية فإننا نتغافل عن هذه الأمور المعلومة بالضرورة لنصل مباشرة إلى الأمور المحيرة والأمور التصورية. فعلى سبيل المثال، أن القناعة بأننا سنفهم أنفسنا بصورة أفضل إذا درسنا السلوك الكمي لجزيئات نواة الذرة في داخل أدمغتنا، إنما يماثل القناعة بأن دراسة علم الصوتيات يساعدنا على فهم موسيقى (بيتهوفن). فلماذا نحتاج إلى ذكر ما هو معلوم بالضرورة؟ هذا لأننا نؤخذ بسحر الظن بأننا سوف نفقد الفهم الحقيقي للأشياء إذا لم نأخذ في الاعتبار كافة النظريات العلمية المصاغة حولها. إن أحد الفروقات الحاسمة بين (منهج العلم) و(الفهم غير المقيد بأطر نظرية) هو أن العلم يهدف إلى تحقيق أعلى مستوى من التعميم، الشيء الذي يعد أمراً مستبعداً لدى الأشكال الأخرى من الفهم، وهذا ما يجعلنا نقول بأن الفهم الإنساني لا يمكن أن يكون بذاته علماً. فمثلاً، أن تفهم شخصاً يعني أنه بإمكانك أن تحكم ما إذا كان يقصد ما يقوله أم لا، وما إذا كان تعبيره عن مشاعره حقيقي أم مختلق. فكيف إذاً يمكن للشخص أن يتحصل هذا النوع من الفهم؟ طرح (فيتجنشتاين) هذا السؤال في نهاية كتابه (بحوث فلسفية)، فقد تساءل (هل يوجد بالفعل مثل هذا النوع من أحكام الخبرة المتعلقة بأصالة التعبيرات الشعورية؟) فأجاب بنعم، بالفعل توجد مثل هذه الأحكام. ولكن الاثبات في اطلاق مثل احكام الخبرة هذه بالناس هو في الأساس أمر لا يمكن تقديره ويشكل مقاومة للصياغة النموذجية العامة للعلم. حيث كتب (فيتجنشتاين) في هذا المعنى (بالنسبة لما لا يمكن قياسه أو تأكيد الدليل عليه بدقة مثل ما تحمله التلميحات الحركية وحدس نغمة الصوت فقد أكون قادراً على التمييز بين شعور المحبة كما يبدو على الحقيقة وأيضاً كما يبدو بصورة زائفة… وربما أكون أيضاً غير قادر تماماً على ادراك الفرق… ولو كنت رساماً بارعاً فربما أمكنني أن أعبر عن اللمحات الحقيقية والزائفة برسم الصور). ولكن واقع أننا نتعامل مع أمور لا يمكن قياسها لا يجب أن يضللنا بأن يجعلنا نعتقد أن كل الدعاوى لفهم الناس هي دعاوى زائفة. فعندما شرع (فيتجنشتاين) في مناقشة روايته المفضلة (الأخوة كارامازوف) The Brothers Karamasov مع (موريس دريوري) M. Drury قال بأنه وجد شخصية الأب (زوسيما) Zossima مثيرة للإعجاب. حيث كتب (ديستويفسكي) Dostoevsky مؤلف الرواية معلقاً على (زوسيما) (يقال .. أنه غارق في العديد من الأسرار والأحزان، وقد اعترف لنفسه أنه في النهاية قد بلغ درجة من وضوح الإدراك بما يمكنه من مجرد اللمحة الأولى لوجه الوافد الغريب أن يخبرنا لأي سبب هو جاء، وماذا يريد، وأي نوع من اوجاع عذاب الضمير هو يعاني). فقال (فيتجنشتاين) (نعم، يوجد بالفعل مثل أولئك الناس الذين ينفذون بأبصارهم مباشرة نحو نفوس الآخرين وفض مغاليقها).
ويبقى أحد أبرز المقاطع حكمة في كتاب (بحوث فلسفية) (إن العمليات الباطنة تظل في حاجة إلى معيار خارجي). وما هو في الغالب أقل قابلية للإدراك ما قد أكده (فيتجنشتاين) من وضع كل الأمور غير القياسية في محل الإدراك الحسي من حيث حاجته (للمعيار الخارجي). فأين يمكن للشخص أن يجد مثل ذلك الشيء الذي تتجسد فيه هذه الحسية الصارمة؟ هذا عادةً لا يكون في أعمال علماء النفس وإنما في أعمال كبار الفنانين والموسيقيين والروائيين. كتب (فيتجنشتاين) في كتابه (الثقافة والقيمة) Culture and Value (أن الناس في حاضرنا يظنون أن العلماء موجودون لإرشادهم، وأن الشعراء والموسيقيين ومن نحوهم هم من يهبونهم السعادة، وبالتالي لم ترد على أذهانهم فكرة أن هؤلاء لديهم ثمة أشياء يمكن أن يعلموها لهم).
ختاماً، وفي وقت كهذا، عندما تدعي فيه الإنسانيات بأنها تلتزم جوهرياً بكونها علوماً، فإننا نكون إذاً في حاجة إلى أكثر مما هو مجرد الدروس لكي نفهم أننا يجب أن نتعلم من (فيتجنشتاين) – ومن الفنون أيضاً.
————-
** تأليف / ري مونك Ray Monk .. ترجمة وتعليق
وائل الكردي