هل يمكن للدولة المدنية أن تشكَل الحل في سوريا والعالم العربي!!؟

دكتور خالد شوكات (كاتب من تونس)
يحتدم النقاش في سوريا اليوم حول طبيعة الدولة الجديدة التي يتطلع السوريون إلى إقامتها، خلفاً لدولة البعث وآل الأسد التي عمّرت ما يزيد عن نصف قرن وراثة بين الابن وأبيه، حتى أطاحت بها المعارضة المسلحة يوم الثامن من ديسمبر 2024، بعد أن اجتاحت فصائلها المدن السورية الكبرى، حلب ثم حماه ثم حمص، وأخيراً دمشق، وغادر الرئيس بشّار إلى منفاه في روسيا، بعد أن انهار جيشه فجأة وبلا مقدّمات.
وتأتي هذه الأحداث تتويجا للمسار الثوري الأطول في سياق موجات الربيع العربي المتواترة منذ انطلقت الشرارة الأولى من تونس سنة 2011، فطيلة ما يقارب العقد والنصف من الزمان عرفت الثورة السورية تقلّبات عاصفة، إذ ابتدأت سلمية وانتهت مسلّحة، وانطلقت مدنية وانتهت بهيمنة الجماعات الاسلامية المتشدّدة، واستهلت خاتمة للموجة الأولى وخلصت إلى أن تكون بداية لموجة ثالثة، فمن حيث تكسّرت أمواج الربيع الأول على أسوار دمشق تتشكل في آفاق العالم العربي الآن موجة جديدة ربما انطلقت من ذات الأسوار، وتلك طبائع البحار بين مدّ وجزر، ولكنها سنن الحركات التاريخية الكبرى أيضا.
خلال الأيام الأولى بعد سقوط دمشق، ورغم التطمينات التي أعطاها قادة سوريا الجدد وعلى رأسهم أحمد الشرع، أو أبو محمد الجولاني كما كان معروفا، فإن قلقاً بدأ يساور بعض القوى، خصوصاً تلك التي تعتمد مرجعية علمانية، فيما تهرع بعض القوى الاقليمية والدولية، لاعتبارات ذات صلة بالمصالح، لعل بعضها لا يضمر الخير لهذا البلد العربي المركزي، إلى ما يشبه التحريض ضد الحكام الجدد باعتبارهم اسلاميون متشددون قد يذهبون في اتجاه فرض دولة دينية لا يريدونها، ومن هنا جاء استشراف هذا النقاش أو الصراع الممكن الذي قد يحتدّ في كل لحظة إن لم يحسن السوريون إدارة اختلافهم وحسم أمورهم بطريقة حضارية، والاستفادة من تجارب الانتقال العربية لتفادي الهنات واستثمار نقاط القوة التي تضمنتها، والاستفادة منها في تفادي المزالق والمهالك وضمان نجاح الثورة في تحقيق أهدافها.
خلال الموجة الثانية من الربيع العربي، التي ضربت السودان والعراق والجزائر ولبنان، رفع المتظاهرون الشباب، الذين ينتمي عدد كبير منهم لمنظمات المجتمع المدني، شعار “نريدها دولة مدنية، لا عسكرية ولا أمنية”، وهو ما ضبط البوصلة العربية في الاتجاه الصحيح للتاريخ، وبلور العقل السياسي الجمعي حلّا مختلفاً، يعكس وعي المتظاهرين بخصوصية منطقتهم من جهة، وأهمية التماهي مع العالم في ما وصلت إليه البشرية من قيم جمعية.
لقد كانت تونس سبّاقة وفريدة في سياقها العربي الإسلامي باعتمادها في دستور الثورة لسنة 2014 “الدولة المدنية”، كبديل حضاري ل”الدولة الدينية” أو “الثيوقراطية” و “الدولة العلمانية” أو “الفردانية”، وكان حل “الدولة المدنية” حلّا توافقيا عبقريا لهذا الصراع المزمن بين التيارين الإسلامي والعلماني، لأنّه يعكس قدرة على التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، من أجل بناء “حداثة متأصلة” منسجمة مع سياقنا التاريخي والجغرافي والحضاري.
يجمع مصطلح “الدولة المدنية” بين أمرين هامين:
– “دولة المدينة” التي تحيل إلى أول تجربة دستورية في التراث العربي الإسلامي، وإلى سبقنا في تأسيس دولة الحاكم البشر الذي يمشي بين الناس في الأسواق ويستمد سلطته منهم، ويحترم حريتهم، ويشاورهم في الأمر، ويضمن حقوق الأقليات منهم.
– “دولة المجتمع المدني”، أي النموذج الأكثر عصرية للدولة الديمقراطية التي تحترم الحريات وحقوق الإنسان وتقوم على الفصل بين السلطات والتداول السلمي على السلطة..إلخ.
وهذا الجمع بين الأصيل والمعاصر هو الذي يبني قاعدة صلبة لحداثة مثمرة مقبولة ومتميزة، وليست مجرّد تقليد منطلقه احتقار الذات والتبعية للآخر.
وإنني أرى في هذا الحل أي “الدولة المدنية” صالحا لكل تجربة انتقال جديدة في عالمنا العربي، وفي مقدمتها سوريا اليوم، حيث يشعر الإسلاميون بأنهم لم يخونوا مرجعيتهم الدينية، ويشعر العلمانيون بأن القيم الأساسية التي يتطلعون إليها مضمونة.
وقد سبق لنا في المعهد العربي للديمقراطية أن نظمنا مؤتمرين عربيين سنتي 2018 و2020 في هذا الموضوع، حضره أصدقاء لنا من عديد البلدان العربية بما في ذلك سوريا، وأصدرنا كتابين يضمان أوراق المؤتمرين وما جرى من حوار بناء بين باحثين ونشطاء يمثلون التيارين.