بيان أردوغان: ويل للعرب من شرٍ اقترب

دكتور حسن عيسى الطالب
ألقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بياناً واثقاً وقاصداً أمام الدورة 79 للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تمثل برلمان المجتمع الدولي، ومركز الرأي العام العالمي الأعظم، ومصدر اتخاذ القرار فيه. وقد درجت الأمم المتحدة كمنظمة دولية ومنذ إنشائها عام 1945م بعد انهيار عصبة الأمم المتحدة باندلاع الحرب العالمية الثانية ، فدرجت منذ انشائها على مداومة الانعقاد سنويا، وبصورة راتبة، حيث يجري استعراض أحوال العالم السياسية والاقتصادية والصحية والأمنية، من قبل رؤساء دوله وحكوماته.
وقد انعقدت الدورة 79 هذا العام منذ الحادي والعشرين من سبتمبر الجاري تحت شعار: “قمة المستقبل” وتناولت الأجندة الرئيسة للدورة محاور التنمية المستدامة السبعة عشر، التي تستهدف أهمها مكافحة الفقر والأوبئة والتغير المناخي وفضّ النزاعات.
وتحت هذا البند الأخير جاءت مداخلة الرئيس التركي أردوغان الثائرة والمؤثرة، التي تخطّت بروتوكول المجاملات والزوغان عن المواضيع الساخنة، بالاعتراف علناً بمشروعية المقاومة الفلسطينية، التي تقاتل الاحتلال الصهيوني في فلسطين، فوصفها بأنها حركة مقاومة مشروعة، تستند على ميثاق الأمم المتحدة نفسها؛ وأن ما تقوم به اسرائيل من استهداف استئصالي منذ أكتوبر الماضي هو هجوم على شعب حر يكافح من أجل تحرير أرضه ومساكنه المحتلة، وأن أُس المشكلة في فلسطين هو الاحتلال الإستيطاني، الذي جثم بالقوة المسلحة، والتآمر والتحالف الماكر، والإحتلال االعسكري لأراض رفض أن يتخلى عنها منذ عام 1967م رغم قرارات الأمم المتحدة المتكاثرة.
ومن المصادفات العجيبة أن رقم الدورة 79 الحالية يمثل الرقم الذي أصدرته الأمم المتحدة من قرارات بالإجماع، رفضت اسرائيل الامتثال لها جميعاً، ولم يستطع المجتمع الدولي ممثلا في مجلس الأمن من إلزامها بها، نظراً لاستخدام الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) مما أصبح مهدداً خطيراً لبقاء الأمم المتحدة كمؤسسة دولية موثوقة لفرض السلم والأمن الدوليين، ومن تلقاء تعظيم وقع آثار تطبيق مبدأ الكيل بمكيالين، من قبل الولايات المتحدة والدول الأوربية الحليفة لها، وخاصة بعد نشوب حرب الإبادة على غزة منذ أكتوبر 2023م، وشيوع الفشل في تحقيق العدالة الدولية، من قبل كافة وكالات الأمم المتحدة، مما ينذر بهلاك الأمم والكيانات والمؤسسات المحذر منه، وخاصة فيما يتصل ببقاء الدول والتعجيل بتلاشيها؛ استناداُ على الأثر الشريف: “إنما أهلك الذين من قبلكم، أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ” وهذا هو عين ما تقوم به أمريكا اليوم فيما يتعلق بتطبيق القانون الدولي على الضعفاء من الدول؛ ورفضها تنفيذه على نفسها أو على حلفائها، وخاصة اسرائيل؛ وبصورة مكرورة وسمجة ومسيئة، مما يعجّل بذهاب سطوتها وتلاشيها، من تلقاء ظاهر الحديث.
بيد أن أهمّ ما جاء في بيان الرئيس أردوغان هو مقترحه بتشكيل “التحالف الإنساني الدولي” Humanitarian Alliance لوقف الإبادة على الشعب الفلسطيني. فذكر في السياق أن هذا الحلف يأتي على نسق وغرار الحلف الذي شكلته الدول الأوربية، ومنها بريطانيا وفرنسا والإتحاد السوفيتي، ضد الإعتداء النازي بقيادة أدولف هتلر، الذي احتل باريس عام 1941م، ثم دخول أمريكا الحرب في عهد الرئيس ثيودور روزفلت، بعد أن قام الألمان باستهداف السفن التجارية الأمريكية، والسيطرة على المحيط الأطلسي، وقطع خطوط التجارة الدولية في المحيط الهادي بواسطة حليفتهم اليابان؛ وكذلك في البحر المتوسط عبر التحالف النازي الفاشيستي بين هتلر وموسوليني في إيطاليا.
لقد كانت هزيمة هتلر هي انتصار للقيّم الإنسانية الجمعية، التي تجاوزت أهميتها الفوارق الإيدولوجية للدول، لأن جوزيف ستالين، زعيم الإتحاد السوفيتي، ورأس الماركسية اللينينية، كان من حيث المبدأ هو العدو اللدود للرأسمالية الليبرالية، التي تقوم عليها أنظمة أمريكا وبريطانيا وفرنسا، ولكن المصائب يجمعن المصابينا، والضرورات تبيح المحظورات. فجاءت إشارة الزعيم التركي بمغزى دبلوماسي لطيف، من تلقاء انعقاد المقارنة والتشبيه بما فعله هتلر في ألمانيا ضد اليهود وشعوب أوروبا وبين ما يفعله نتنياهو ضد مواطني فلسطين والدول العربية المجاورة، بعد أن تجاوزت أرقام ضحايا الإبادة الصهيونية 41 ألف من القتلى وأكثر من 96 ألفا من الجرحى، 70% منهم من النساء والأطفال.
فضلاً عن ذلك كان الحلف الأوربي المشهور، الذي سبق ما كان أيام هتلر، وهو التحالف المقدس The Holy Alliance في القرن التاسع عشر، والذي انعقد بمبادرة من قيصر روسيا الإسكندر الأول الذي كان يمثل رأس الكنيسة الأرثودكسية؛ وبمشاركة النمسا التي كانت راعية الكاثلوليك؛ وبروسيا التي كان ملكها يمثل البروتستانت. وذلك لأن نابليون أهان البابا بيوس السادس وسجنه، وهاجم مقره في الفاتيكان واستباحه، وألغى سلطات الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا، فسجن القساوسة وأقام لهم المحاكمات الناجزة، وصادر ممتلكات الكنيسة، فقام البابا بتكفيره بحكم الردة عام 1809م فتحالفت كل هذه الدول على هزيمة نابليون، والتي تحققت في عام 1815 في معركة واترلو الشهيرة التي شاركت فيها بريطانيا، راعية الكنيسة الإنجليكانية، وكان قائد الجيش البريطاني في تلك المعركة هو ديوك ولينجتون. فتسنى من تلقاء ذلكم الحلف المقدس أن تحظى الدول الأوربية وشعوبها بمائة عام من السلم والأمن القاري وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914م.
هذه الوقائع تمثل السوابق الدولية التي أراد الرئيس أردوغان بسردها تذكير رؤساء الدول والحكومات المؤتمرين في نيويورك بواجباتهم الأخلاقية والقانونية والإنسانية. ونظراً لأن الدبلوماسية الدولية تستهدي بالسوابق، فإن هاتين الحادثتين، وكلتاهما في أوروبا، تظلان معالم مشروعة لأهمية وضرورة تشكيل الأحلاف الدولية والقارية والإقليمية لقمع الشر المستطير، الذي يتهدد السلم والأمن الإقليمي والقاري والدولي، عندما يتطاول الطغاة المتغطرسون، ومصاصو الدماء، بالسعي بأعمال يمكن إن تركت دون رد فاعل، أن تعجّل بفناء البشرية من وجه الأرض. فهاتان السابقتان تمثلان معالم للإستهداء بها ولحشد الرأي العام العالمي على مستوى برلمان المجتمع الدولي الأعظم – الجمعية العامة – وكذلك فمن تلقاء فقه المسلمين المأثور، ما ذكر عن احتفاء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بحلف الفضول الذي كان في الجاهلية، وتحت رعاية رجل من كرام أهل تلكم الفترة، وهو عبد الله بن جدعان، وأنه كان بمثابة تحالف إنساني وأخلاقي مع قبائل العرب لنصرة الضعفاء والمهمشين والمظلومين، أيّاً كان موقعهم، وبغضّ النظر عمّن ظلمهم. ففي شريعة الإسلام نص قرآني محكم، يطالب المسلمين بنصرة الضعفاء من الرجال والنساء والأطفال، أينما وجدوا، وبغضّ النظر عن دينهم ولا لونهم أو جنسهم، بل يحرضهم النصّ القرآني أن نصرتهم هؤلاء الضعفاء ترفعهم لمقام الولاية اللدنية والنصرة لله تعالى: “ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيرا” الآية 75 – النسـاء –
ونظراً للتقاعس العربي الراهن في لعب أي دور فاعل على المستوى الدولي، وتخاذل معظم الدول الإسلامية عن الواجب الشرعي في نصرة الفلسطينيين المظلومين، الذين يناضلون ويقاتلون، فقط لإخراج من أخرجوهم من ديارهم، ونهبوا أموالهم، وقتلوا نساءهم وأطفالهم، وقاتلوهم في دينهم، فاحتلوا مساجدهم ودنّسوا دور عبادتهم، وساموهم سوء العذاب والمهانة؛ فظل المجتمع الدولي ينتظر بادرة فعل من العرب أهل الرحم القريب؛ ولكنها لم تأت. ثم تجيئ النصرة لأهل فلسطين العرب، من دول لا تنتمي بالعرق ولا بالقرب للعرب، ولكنها أمم تعتز بعقيدتها وبمبادئها وبإنسانيتها؛ وهي حصرياً التي تدعم المقاومة المسلحة اليوم، وفي طليعتها إيران وتركيا.
وحيث أن عالم اليوم لا مكان فيه للضعفاء والمتخاذلين، ولا يحتفي بمن يتخاذل ولا ا
إنصافه بأية قرارات تصدر بشأن السياسة الدولية والجيوستراتيجية الدبلوماسية، فإن المطلوب الحشد والاستقواء بالقوة الجمعية المتاحة. ويمكن أن يتأتى ذلك بالدعوة لعقد الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي مؤتمراً مشتركاً لنقل مبادرة الرئيس التركي لحيّز الفعل، والخروج بخطوات فاعلة وملزمة لنصرة المستضعفين المظلومين، ليحظوا بالتقدير الدولي المستحق لهم ولعقيدتهم. فلا يعقل أن يكون من ينافح عن أهل غزة وفلسطين العرب والمسلمين؛ دول ليست ذات أغلبية عربية، ولا سمة إسلامية، كجنوب أفريقيا والبرازيل وشيلي والإكوادر، التي تسامت ببرّ الرحم الإنسانية والأخلاق التحررية وأصبحت تقاضي الصهيونية في المحاكم الدولية. وقد كان العرب حتى في جاهليتهم يحذرون إخوانهم من مغبة التخاذل والخنوع والتقاعس عن نصرتهم، ويعلو صوتهم بتحذيرهم من الخذلان؛ كما قال شاعر عبد القيس:
فإما أن تكون أخي بحق فأعرف منك غثّي من سميني..
وإلا فاطّرِحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني ..
وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يحذر من التخاذل، فيما روته عنه أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنه دخل عليها وهو مُحمّر العينين يقول: لا إله إلا الله؛ ويل للعرب من شر قد اقترب.