تصريحات الفريق العطا ليست مجنونة كما يراها بعض الناس

سعيد إبراهيم تلفو
في عالمٍ لم تعد فيه الأسرار ممكنة، ولم يعد بالإمكان التستر على دعم المليشيات أو تمرير الأجندات عبر الحدود دون أن تلتقطها الأقمار الاصطناعية وشبكات الاستخبارات الدولية، يصبح الصمت الرسمي تجاه العدوان غير النظامي نوعًا من التواطؤ غير المعلن. من هذا المنطلق، جاء خطاب الفريق ياسر العطا الذي وجّه فيه اتهامًا مباشرًا إلى دولة جارة بدعم التمرد في السودان، واعتبر مطاراتها أهدافًا مشروعة. لم يكن هذا الخطاب تصعيدًا انفعاليًا، بل ممارسة سيادية، مبنية على معطيات ميدانية واستخباراتية، وعلى سابقة تاريخية راسخة في سلوك الدول الحديثة.
ففي الواقع، لم يكن السودان غافلًا عمّا يجري على حدوده، حيث تكدست المعسكرات المليشاوية التي ضمت عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب. تم تجنيدهم وتمريرهم تحت غطاء التجنيس العشوائي، وفتحت لهم الممرات الجوية والبرية لعبور العتاد والسلاح والمال، وكل ذلك تحت أعين نظام سياسي وأمني معروف، ظن أن الجغرافيا ستمنحه الحصانة من المحاسبة. لكن الدولة السودانية، وبعد صبر استراتيجي طويل، قررت أن تقول كلمتها.
المعلومات الاستخباراتية الراشحة من داخل المؤسسات العسكرية والأمنية، تشير بوضوح إلى أن المليشيا التي تقاتل الجيش السوداني لم تعد فقط ظاهرة داخلية، بل تحوّلت إلى أداة إقليمية بيد دول بعينها. هذه المليشيا تحظى بدعم لوجستي وتمويل منظم، وتستخدم الأراضي التشادية والليبية وجنوب السودان كمنصات خلفية لإدارة حربها ضد الدولة. آلاف العناصر التي جُندت لا تحمل الانتماء الوطني، بل جرى تسويقها على أنها “سودانية” ببطاقات مزورة، بينما هي في حقيقتها قوات مرتزقة محترفة، تم تدريبها على أيدي جهات أجنبية.
من هذا المنظور، فإن حديث الفريق العطا لا يُعد خروجًا عن الأعراف، بل هو امتداد طبيعي لسلوك دولي معروف. في عام 2001، اتخذت الولايات المتحدة من دعم طالبان للقاعدة مبررًا لغزو أفغانستان، رغم أن الهجمات لم تُنفذ من داخلها. تركيا هددت سوريا صراحة عام 1998 بسبب دعمها لزعيم كردي معارض، وفرضت شروطًا أمنية صارمة ضمنت مصالح أنقرة الاستراتيجية. فرنسا تدخلت في مالي لأن الدعم الخارجي للجماعات الإرهابية هناك هدد أمنها. كل هذه النماذج تؤكد أن الدول حين تمس سيادتها، لا تتردد في إرسال رسائل واضحة، تمامًا كما فعل السودان.
ما يجعل هذا الخطاب أكثر أهمية هو توقيته. فالعالم يعيش لحظة فرز استراتيجي جديدة، تضع إفريقيا في قلب الصراع بين القوى العظمى. لم يعد بالإمكان خداع المجتمع الدولي أو التستر خلف بيانات دبلوماسية منمقة. السودان اليوم يواجه تمردًا مسنودًا، بل وموجهًا من الخارج، والمعطيات التي بين يديه لا تُترك مجالًا للشك. وعليه، فإن ردة الفعل التشادية أو غيرها من الأطراف المتورطة لا يجب أن تُخيف السودان أو تردعه، لأنه لا يتحدث من فراغ.
ثم إن ردود الفعل الدولية المتوقعة لا تمثل تهديدًا حقيقيًا. السياسة الأمريكية، التي تشكلت في عهد ترامب، لا تزال تنظر إلى القضايا الإفريقية من زاوية المصالح، لا المبادئ. نهج “أمريكا أولًا” لم يغادر، وموقف واشنطن سيكون قائمًا على من يخدم الاستقرار بشكل أفضل، لا من يرفع الشعارات. أما روسيا، التي تنخرط بقوة في إعادة رسم النفوذ الدولي، فإن السودان يمثل لها منفذًا استراتيجيًا على البحر الأحمر. القاعدة الروسية في بورتسودان مشروع حيّ، وأي تهديد غربي للسودان سيدفعه أكثر نحو موسكو، وهو ما تدركه العواصم جيدًا.
الصين، براغماتية كما عهدها العالم، تهتم بالاستقرار الذي يضمن استثماراتها وممراتها، ولن تزعج شريكًا مثل السودان في مواجهة مجموعات مسلحة لا مستقبل لها. أما فرنسا، وهي الجهة التي ربما تُغريها فكرة التحرك دفاعًا عن تشاد، فإنها تعلم أنها محاصرة. نفوذها التقليدي في القارة يتراجع، ومصالحها تتقاطع الآن مع النفوذ الروسي، خصوصًا في ظل التنافس على قواعد عسكرية وموانئ استراتيجية. فرنسا لا تستطيع أن تفتح جبهة ضد السودان دون أن تخسر موطئ قدم لصالح موسكو أو بكين.
السودان، إذًا، لا يتحرك في فراغ. إنه يخوض معركته وهو مدرك لتغير قواعد اللعبة الدولية. صمته الطويل لم يكن عجزًا، بل حسابًا. واليوم، حين يتكلم، فهو لا يطلب الإذن، بل يُعلن أن للسيادة أثمانًا، وللصبر حدودًا. ومن هنا، فإن خطاب العطا يجب أن يُقرأ كما هو: رسالة تحذير عقلانية، موجهة لكل من ظن أن السودان يمكن ابتلاعه من خاصرته الغربية، دون أن يقول كلمته.