الذاكرة السودانية: تهجير النوبيين .. حلفا تنهض من تحت النهر

محمد الشيخ حسين
رغم أن أكثر من 60 عاما تفصلنا عن هذا الحدث، إلا أن ثلاثية الصحفي أيوب إسماعيل أيوب عن ملحمة السد العالي في الجانب السوداني، وتهجير النوبيين من حلفا القديمة إلى منطقة خشم القربة، عموما تطرح أسئلة على مستويات مختلفة، منها السؤال الفلسفي حول الزمن مثلا، ومنها السؤال السياسي حول السلطة، ومنها السؤال الاجتماعي حول الهجرة أو التهجير.
وتتشكل هذه الأسئلة كافة عبر خبرات وتجارب تتجاوز عمر الكاتب، والأمكنة التي عاش فيها، وتنقل عبرها، ليصل إلى أزمنة بعيدة، وأماكن أبعد، وخبرات روحية عميقة، وما بعد روحية، إذا صح التعبير.
وكل هذه الأسئلة يصوغها أيوب إسماعيل في ثلاثة كتب صدرت في بنيات روائية ذات طابع إشكالي منذ الكتاب الأول (حلفا تلاطم الأمواج وهطول المطر)، الصادر عام 2008م، ثم الكتابين الثاني والثالث (تهجير النوبيين مشاهد ومواقف)، و(تهجير النوبيين نتائج تجربة) في العام 2009م.
وتستند كتب أيوب إسماعيل إلى تراث نوبي مألوف، لكنه يقفز دائما في مناطق مجهولة تغري القارئ بتأملها، وهذا ما دعا كاتب مقدمة الكتاب الأول بعد أن تتبع مسيرة التهجير إلى الإقرار بأن الوقائع عنيدة لا يمتلك أي منا المعلومة الكاملة، وهنا تكمن أهمية استكمال مشروع التوثيق والهجرة.
غير أن كاتب هذه المقدمة الدكتور عبد الحليم محمد صبار تمنى أن يستمر مؤلف الكتاب في إعداد تكملة تفصيلية لكل الأبطال الذين رفضوا الهجرة إلى حلفا الجديدة وآثروا البقاء في أرض الأجداد.
ويبدو لمن يطلع على الكتاب أن أمنية الدكتور صبار يمكن أن تتحقق بواسطة المؤلف الذي يبدو أنه اختزن التجربة منذ كان في الخامسة من عمره عند حدوثها، وانفعل بها في بدايات الوعي، ذلك أن أسرته كانت ضمن الرافضين للهجرة، بل أن والده عليه رحمة الله ظل يردد دعاء طيلة حياته (رب ابني لنا واديا في الجنة وسمه وادي حلفا).
على أن الجديد في الكتاب الأول هو أن حلفا تبدو لك مثل مدينة تنهض مرة ثانية من النهر، وفي ذلك جهد عظيم من جهتين، الأولى: الوفاء لعهد الأسرة بالبقاء في أرض الأجداد، والثانية: توثيق التجربة الإنسانية دون أن تتحول إلى مناحة تبكي على المدينة التي ابتلعتها البحيرة أو تندب الظلم الذي حاق بأهلها. لذا تجد المؤلف ينهمك في وصف الأحوال المعيشية في حلفا القديمة حاليا، كأنه يجيب عن سؤال قديم فحواه، عندما تم التهجير إلى منطقة خشم القربة، لماذا لم يتم البحث عن وطن بديل في المنطقة ذاتها أو في نواحيها، بعد أن تغمر المياه ما تغمر من أراض؟
رغم أن السؤال سهل ولا يحتاج إلى ذكاء، إلا أن المسألة تبدو لي أقرب إلى معاناة الراوي في رائعة الطيب صالح دومة ود حامد، حيث اكتشف الراوي في نهاية القصة أن المكان يسمح بوقوف الباخرة وبقاء الدومة شامخة وزيارة ضريح الولي الصالح.
ما علينا، فالصديق أيوب يقدم بين أيدينا ثلاثة نصوص واضحة جدا، حين تراه يمعن النظر في وصف تفاصيل تجارب عادية مما نألفه في حياتنا اليومية، وذلك من قبيل خبرات الحواس على تنوعها، بل حتى لذة الأطعمة ذاتها، فنظن عندئذ أن النص يريد أن يقف عند تجارب الحياة العادية وخبراتها البسيطة.
لكنّ هذا المستوى البسيط الذي يجعلك تنفعل معه، يعني أن أيوب إسماعيل يود أن يستقطبنا معه في قضيته المركزية الكامنة في عبارة (سنعيدها سيرتها الأولى).
واللافت أن أيوب إسماعيل لم يكتب هذه الكتب دفعة واحدة، بل كتبها متفرقة على مدى ثلاثة أعوام. ومما دونه في الكتاب الأول نحن أمام عمل يبدو لنا أنه رواية، لكننا منذ الصفحات الأولى ندرك على الفور أننا لسنا أمام رواية بالمعنى التقليدي المتعارف عليه، وهو انطباع يتأكد بقوة كلما أوغلنا في العمل.
الحاصل أن المؤلف وضعنا في أجواء الاستعداد للهجرة أو التهجير، مازجا بين تلاطم الأمواج في حلفا القديمة وهطول المطر في حلفا الجديدة، وهنا تحضرني طرفة رواها لي أستاذنا الراحل محمد توفيق، أن أحد معارفه تعرض لحالة نفسية سيئة لعدة سنوات، بسبب صوت الرعد وفرقعة الصواعق في منطقة البطانة.
ربما يجد القارئ المدقق في الكتب الثلاثة بناءً درامياً تتفاعل فيه الشخصيات والقرارات والإجراءات والتظاهرات والمشاهد والمواقف ونتائج التجربة نفسها تعلو وتهبط حسب مقتضى الحال في تراتب زمني منطقي. لكن يبدو لي أن عملية تصنيف البناء السردي قد أصبحت معضلة للكثير من النقاد، بعد خروج الكتابة الروائية من عباءة نجيب محفوظ السميكة.
ولعل البحث عن تصنيف البناء السردي أصبح معضلة بالنسبة إلى كثير من النقاد، وقد خرجت الكتابة الروائية في العقود الثلاثة الأخيرة في شكل واضح على عباءة نجيب محفوظ السميكة.
ومن هذا الخروج استفاد أيوب إسماعيل في أن النصوص التي أعدها لم تكن ألغازا على المستوى البنائي، وبالطبع فالألغاز الروائية لا تأتي كلها بثمار إيجابية.
ولكن تبقى مثل هذه الكتب تجارب مثيرة، يضعها مؤلفها تحت مجهر التعاطف مع القضية، مستعينا بلقطات تكسب قضيته بعدها الإيجابي من دون أن يمارس علينا أية وصاية أو يحاول أن يبتز عواطفنا.
في الكتاب الثاني (تهجير النوبيين مشاهد ومواقف)، يكتب الدكتور كمال حنفي منصور المقدمة بذكاء شديد، فمن الكلمة الأولى يهرب من التلاعب اللغوي بين كلمتي هجرة وتهجير.
وأصل الحكاية أن المؤلف استخدم كلمة هجرة في البداية، لكن عند النهاية اتضح أن الكلمة المناسبة هي تهجير. فسواء أكانت هجرة أم تهجيرا، فالمشاهد والمواقف التي ساقها المؤلف عن عمليات الترحيل، في غالبها شهادة إيجابية لمصلحة حكومة طيب الذكر الراحل الفريق إبراهيم عبود. وهذا يعيدني إلى السؤال السياسي حول السلطة. ولا أدري هل لدينا الشجاعة للإقرار بأن السلطة آنذاك كانت موفقة جدا في ما اتخذته من إجراءات للهجرة أو التهجير؟
بقدر ما وفق الدكتور كمال حنفي منصور في تقديم الكتاب الثاني في اعتباره قصة لا نهاية لها، تصلح أن تكون شهادات على العصر، لم يوفق كاتب مقدمة الكتاب الثالث صاحب القلم الساخر زميل الدراسة الأستاذ زكريا حامد في مقارنة الأمر بما حدث في لوكربي. ولعلها حالة طارئة دفعت الأستاذ زكريا إلى المطالبة بتعويضات على غرار تعويضات لوكربي لمصلحة من سماهم بضحايا السد العالي.
الكتاب الثالث (تهجير النوبيين – نتائج تجربة) رحلة في الزمان والمكان والروح، فالرحلة، ليست جغرافيا فحسب، بل الجغرافيا تستخدم كمساحة للبحث عن معنى الوجود وجدواه، وهل له نهاية، وكيف تكون النهاية؟
ويبدو لي أن نتائج التجربة هنا مختلفة، فالصور المأساوية لمظاهر الحياة في الوطن الجديد، ليست من مسؤولية الهجرة أو التهجير، بل صورة من صور التدهور الذي أصاب الحياة في أنحاء كثيرة من هذا الوطن.
ورغم ذلك يسعى الكاتب في خاتمة الكتاب الثالث، إلى إثارة النقاش بين كل مهاجري السد العالي في حلفا الجديدة، حاثا إياهم على العودة إلى وادي حلفا. وعندما ينداح السؤال كيف، لا يملك المؤلف إجابة، لكنه لا يكف على التحريض على العودة إلى حلفا التي اجتهد في أن يجعلها مدينة تنهض من تحت النهر.
ولعل الميزة الإضافية لثلاثية أيوب إسماعيل عن وادي حلفا، أنها تكرم ذكرى مدن وقرى هجر منها سكانها، لكنه لم يحولها إلى حائط مبكى يجلس النوبيون تحت ظل صوره يندبون فيه حظهم وآمالهم.
والشاهد أن صفحات الثلاثية تنبض بقصص رائعة وجذابة ناطقة، وتمثل استرجاعا لدروس حقبة زمنية عاش فيها النوبيون معاني العزة والكرامة والإرادة في ديارهم. بل تسعى هذه الثلاثية إلى تأسيس صور ذهنية لأجيال من النوبيين تخطت أعمارهم سن النبوة بسنوات، ولم يعيشوا روعة المشهد أو يشاهدوا قمة المأساة. وهذان المشهدان المتنافران يبدوان واضحين عند مطالعة الكتاب رغم بعد المسافة بينهما.
تحاول هذه الصور أن تعيدهم إلى حقبة ماضية يشتاقون إليها أكثر كلما ازداد ابتعادهم عنها زمنيا وسياسيا، كما هو الآن بعد التدهور المريع في مظاهر الحياة في حلفا الجديدة.
إذا أحسست أثناء تتبعك للثلاثية أن المؤلف معجب بمادته وبموضوعه، فإحساسك صادق، لأن هذا الإعجاب يقودك إلى التعاطف مع فكرة المؤلف الداعية إلى إعادة حلفا إلى سيرتها الأولى، لكنه بوعي شديد يحول أن تتحول هذه الفكرة إلى قصيدة حب للمنطقة ولمن سكنها وحنينا للأيام الجميلة التي قضاها هناك.
حلفا الهجرة والعودة
دون أي إحساس بالمجاملة يستحق الأستاذ أيوب إسماعيل أيوب الثناء والتقدير على هذا الجهد، من جهة أن هذه الثلاثية تفرد حيزا طيبا لجهود وأنشطة لإعلاء الشأن النوبي وإعادة تلك المناطق العريقة إلى سيرتها الأولى.
مع كل هذا يمثل الكتاب جهدا فرديا طيبا في حركة توثيق التراث النوبي، ينبغي أن يمتد وتطول مواسمه لحفظ هذا التراث.
وكثيرة هي أمثلة الاهتمام الفردي لدى أحفاد أقدم حضارة عرفها السودان، فالدكتور عبد الحليم الصبار، وهو طبيب، له ذكريات وتنبيهات في اللغة النوبية تستحق الاهتمام والتسجيل.
وهناك نوبي فذ آخر هو الأستاذ ميرغني ديشاب الذي أعد أكثر من عشر مخطوطات عن تراث المنطقة، بل إن فتوحاته امتدت للكتابة في تراث البطانة، وأرجو أن تكون هذه ميزة للتهجير، ذلك أن الأستاذ ديشاب لاحظ منذ أيامه الأولى أن معظم قصائد ومسادير الشعر في البطانة تمتلئ بالكلمات النوبية، الأمر الذي دفعه إلى جمع هذه الكلمات.
والأستاذ ديشاب حينما يحدثك عن «الشم خوخت» تحسب أنه من آل أبو سن، وليس نوبيا قحا ركب قطار الهجرة في مطلع الصبا مرغما، لكي يعيش في الشرق ويعمل في كسلا ويكتسب صداقة كل من الشاعر الراحل محمد عثمان كجراي والصحفي المتميز الأستاذ أحمد طه محمد الحسن (الجنرال) الضابط الذي غرست فيه القوات المسلحة حب الانضباط، فعاد ليشيعه في حياتنا الثقافية.
أصداء السيرة الذاتية
في كتاب أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ سئل الشيخ عبد ربه التائه: هل تحزن الحياة على أحد؟ فأجاب: نعم إذا كان من عشاقها المخلصين.
يبدو أن هذه العبارة قد سكنت في وجدان المؤلف أيوب إسماعيل تماما، واستثمرها جيدا في غرس فكرة إعادة التوطين في غرب وادي حلفا.
ومثل هذه الأفكار التي تؤسس لبث الوعي الكافي بالفكرة، لأن الحاصل أن رحلة الهجرة من الوطن الجديد إلى الوطن القديم، لن تكون إلا مرحلة الانتقال للبحث عن شكل العيش القادم، وهذا شأن عظيم يستعد الأستاذ أيوب إسماعيل لطرحه في كتاب جديد.
ومع كل هذا تبدو هناك أكثر من فرصة لتغيير مجرى التاريخ أو تحويل المأزق إلى فرصة حتى يستريح النوبي من البحث الدامي عن خلاخيل مدينة وادي حلفا التي لن تنهض من تحت النهر.
كم كانت تلك المدينة تذبح أهلها بالحنين والشوق الهادر؟!
كم ستكون سعادة النوبي عندما يركب لاند كروزر الهجرة لعدم وجود القطار، ليرمي بجواهر حلمه عند مشارف غرب وادي حلفا، لإقامة قرى ومدن ومزارع وحياة جديدة!