رأي

البطولة ليست مجرد أسطورة

وائل أحمد خليل الكردي

رسم توماس كارليل Th. Carlyle في محاضراته (الأبطال) تصوراً فلسفياً للتاريخ أثبت فيه أن التحولات الحضارية كبرت أم صغرت إنما تقوم على سِير الأبطال ومواقفهم، فهؤلاء الأشخاص المتميزون هم علامات التاريخ الفارقة.

لقد كان كارليل وأمثاله كفريدريش نيتشه الذي قال بإرادة القوة وخلق الإنسان السوبرمان، ومثل فويرباخ الذي نادى برد بضاعة الإنسان في صفة الألوهية إليه، وغيرهم.. هم سلالة العهد الاغريقي القديم في تكوينه لمفهوم (البطل) من أسطورتهم القديمة كمفهوم أو عنصر جوهري في تكوين العقلية الأوروبية. فإن (البطل) عند الاغريق كان هو ذلك الإنسان الذي يتصف بقدرات وقوى فائقة متجاوزاً بها حدود البشر العاديين ممن هم ليسوا أبطالاً أو غير القابلين لذلك، وعلى أن يكون مخولاً للقيام بأفعال كبرى وتحقيق آثار عظمى، وسواء كان هذا شاملاً لميدان جمعي أو جماهيري متسع أو شاملاً لواقعة فردية. فهناك كان أوديسيوس بطل هوميروس في (الالياذة) و(الأوديسة) والذي تصدى فيهما من الأهوال والمخاطر ما هو فوق قدرة البشر العاديين. وأيضا كان هناك هرقل في مسرحيات يوريبيدس كمسرحية (هرقل مجنوناً) والتي تظهر النهاية المأساوية فيها فكرة عظمة البطل كمفهوم لإنسان قادر على تحمل عذاب معنوي يفوق بكثير الآمه الجسدية.

ويمكن القول هنا أن البطولة العسكرية والقتالية لم تكن تنفك لا قديماً ولا حديثاً عن التصور العام للبطولة في العقل الأوروبي اجتماعياً ونفسياً، وبنحو ما يمكن رؤية ذلك أيضاً في معنى ومغذى البطولة عند القبائل العربية القديمة. ولهذا السبب لم تكن الاسطورة الهومرية أو اليوريبيدية أو الاسخيلوسية مجرد سرديات أدبية تاريخية في الثقافة الأوروبية، وإنما كانت بمثابة الدستور الوجودي الذي رسمت عليه صورة البطولة الإنسانية في التصور الأوروبي، حيث كانت هنالك البطولة بنوعيها: (البطولة بالتفوق) القتالي والانتصار في المعارك الكبرى، قد جسدتها بجانب التراجيديات الاغريقية تلك الأفكار النهضوية التي انعكست في آداب وأشعار وسرديات ما بعد الحقبة اللاهوتية الوسيطة في أوروبا بنحو ما كانت دلالات رواية (دون كيشوت) Don Quixote لمؤلفها الروائي والكاتب المسرحي الأسباني ميغيل دي سيرفانتس (1547-1616م) التي اعتبرها أغلب النقاد عملاً كوميدياً يثير الرغبة في الضحك والهزء على ذلك الرجل الذي أغلق نفسه في قسم كبير من حياته على قراءة قصص وبطولات النبلاء والأبطال السالفين ثم أنه خرج منها ليعيش وهماً كبيراً يتصور فيه أنه قد تم تعميده على التقليد القديم بوسم السيف وقدم نصف راكعة. ثم ينطلق ليقاتل الأشجار العملاقة ويبارز طواحين الهواء على فرس هزيل وتابع ساذج يرى في سيده أسطورة حية، وكيف أنه يحفز على السخرية عندما يعود في كل مرة من معاركه الوهمية مكسور الرمح، مسخن بالجراح، ورغم ذلك ينتشي نشوة البطل المنتصر. فعلى هذا الحال –يمكن القول- بأن (دون كيشوت) لم تكن أبداً رواية هزلية ساخرة لرجل سعى إلى أمجاد الأبطال في زمان غير زمانها، وانما كانت تعبيراً تراجيدياً مأساوياً عن أشواق العقل والوجدان الأوروبي إلى إعادة قيم البطولة النبيلة التي اختص بها، والتي من أهم صفاتها أنها لا تأخذ الطبيعة على ما هي عليه مجردة، وإنما تضفي وتسبغ عليها من ذوات الأبطال صورهم الذاتية وقيمهم تماماً كما أضفى دون كيشوت صورة الوحوش العملاقة المقاتلة على طواحين الغلال الهوائية، فكان ذلك إن هو إلا تعبير رمزي عن جوهر وحقيقة ذلك الوجدان الذي حقق به فيما بعد التحولات النهضوية والتي بلغت أوجها بوقوع الثورة الفرنسية التي أعادت لأوروبا شخصيتها على تلك المفاهيم التراثية فيها ولكن في قالب عصري لعهد حضاري جديد.

ثم النوع الآخر هو (البطولة بالتضحية)، والتي لا تقل أهمية عن البطولة بالتفوق لأنها تدعم وتتكامل مع ذلك الانتصار بالتفوق، كما أن لها جوانبها وآثارها الاجتماعية البارزة في تعزيز المشاعر الإنسانية السامية وقيم النبل والخير والاعتداد النفسي ورقي الحس الوطني والانتماء، وهو ما جسدته مسرحية يوربيديس (افيجينيا في أوليس) عندما رهنت إرادة الإله الاغريقي انتصار أجاممنون في حربه ضد الفريجيين بتقديم قربان بشري، فكان نصاً: “فطلب إلينا كالخاس العراف –وسط حيرتنا – أن نضحي بإبنتي من صلبي افيجينيا لأرتميس الربة المقيمة في هذه الأرض منبئاً بأننا لو ضحينا بها، سنجر ونستولي على حاضرة الفريجيين، أما إذا أبينا فإن هذا لن يكون” فجاءت البطولة في موقف القبول بالتضحية من جانب الابنة افيجينيا محققة قيمة سامية بقولها “يا أبت، هنا علي أن أفعل ما أمرت به، برغبتي أقدم هذا الجسد، جسدي من أجل وطني وهيلاس جميعاً، فقدني إلى مذبح الآلهة وضح بي”.

ومن نفس هذا القبيل لبطولة التضحية مسرحية (أنتيجونا) التي ألفها الأديب الإغريقي الأشهر سوفوكليس وأعاد تأليفها على نفس المنوال الكاتب الفرنسي جان أنوي حيث جسدت (أنتيجونا) الوجه الأخر من عملة البطولة هذه على النسق الاغريقي وهي (بطولة التضحية السامية) تماماً كما (افيجينيا) يوريبيدس، فالمسعى فيهما واحد على نفس جنس الغرض والفعل ولكن الفرق أن انتيجونا ماتت مُضحية بالفعل، فهي فتاة في أول عمر الشباب وهي ابنة أوديب الملك القديم الذي حملت العقدة النفسية في نظرية التحليل النفسي عند سيجموند فرويد اسمه، فأوديب كان بطلاً نبيلاً ومثلاً في الكبرياء والعلو رغم أنه وقع ضحية خطأ تاريخي دمر حياته، وانتيجونا هي ابنته التي ورثت عنه صفات البطولة والكبرياء فصارت رغم حداثة سنها محاربة اجتماعية شديدة العزم. فالملك آنذاك وخال انتيجونا قد ألقى بجثة شقيقها مكشوفة في العراء يتناوب الحراس على منع الوصول إليها وتركها هكذا تتعفن وتتحلل لكونه قد تمرد عليه سياسياً، وكان هذا من أنواع العقاب عند الاغريق للإنسان بعد موته على أساس اعتقادهم أن الذين لا يُدفنون يتيهون على وجه الأرض إلى الأبد ولا يجدون راحة. كان هذا سبباً من الاسباب التي دفعت انتيجونا للإصرار على محاولة دفن أخيها برغم الحراسة المشددة عليه ولو باستخدام يدها وأظافرها لتغطيه بالتراب.. وعندما قبض عليها ومثلت أمام الملك حاول بكل جهد أن يثنيها عن فعلها هذا مرات بالترغيب ومرات بالترهيب بدعوى محبته لها بكونها ابنة أخته. ولكن الأمر كان في ظاهره المحبة وفي باطنه حقيقة أنه ترك جثة ابن اخته هكذا لتكون ردعاً وارهاباً لكل من تسول له نفسه الثورة على الملك، فلو أنه دفنها لضاع هذا المقصد ولكان محفزاً على مزيد من الثورات عليه. ولذلك وضعه موقف انتيجونا واصرارها هذا على دفن أخيها في حرج بالغ لأنه أصبح بذلك بين أمرين لا ثالث لهما وكلاهما يؤديان إلى نفس النتيجة وهي انهيار ملكه، فإما أن يعلن هزيمته أمامها ويدفن الجثة فيكون بذلك قد أثبت ضعفه وهوانه فيشجع ذلك الثوار على الإطاحة به فينهار ملكه، أو أنه يقتل انتجونا برغم مشروعية ونبل موقفها فيكون بذلك قد تجاوز الحد في الظلم والطغيان على أقرب الناس إليه مما يدفع الجماهير كذلك إلى الثورة وربما كان أول الثائرين عليه هو ابنه هيمون والذي هو خطيب انتيجونا، فينهار ملكه.

ولم يكن هناك مخرجاً من هذا الحرج إلا أن تستجيب انتيجونا لتوسلاته وتهديداته وتتوقف عن محاولاتها لدفن جثة أخيها وأن تتزوج إبنه بسلام، ولكن انتيجونا لن تفعل هذا، ولن تتوقف عن محاولاتها ربما لأنها كانت تعلم وتستشعر يقيناً أنها تحرك بموقفها هذا شعباً كاملاً للثورة والتغيير حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بحياتها، بل إن هذا هو سر وأثر مبدأ البطولة بالتضحية. واختار الملك قتلها على دفن الجثة ورغماً عن توسلات خطيبها المحب ابنه.

فهكذا يكون البطل هو ذاك الإنسان الذي آمن بهدف كبير وشد عليه بأشد عزائمه ، وصار يدفع في نصب ركائزه وإقامة مواطنه ودق أوتاده وجلب الناس حوله إلى أن يبقى حقيقة وأثراً في حياة البشرية.

لقد قال (كارليل) أن الإنسان بلا هدف كسفينة بلا ربان كلاهما يرتطم بالصخور فيهوي إلى القاع. فالإنسان ذو الهدف هو البطل الذي يبني نماذجه على الثوابت واللوازم، وليس ذاك الذي يجادل ويماري في الحق لإزهاق الثوابت وتكسير الرواسخ حتى تضيع فيفوت على الناس دائرة التحضر. فهذا هو العكس من مفهوم البطولة أن يظل الإنسان مجادلاً في ثوابت الأمور، فهو قد أراد لنفسه أن يكون عاجزاً عن بناء حجر على حجر، فيؤلف فوق الثوابت جسداً شاهقاً من المتغيرات التي يشد بعضها بعضاً، فتكون مهما تحولت قائمة على حكم الثوابت. إن مَن يجادلون في الثوابت عوداً على بدأ دوماً هم من أرادوا الحياة كلها كماً من المتغيرات تجنح بالوجود في مهب الريح بغير هدىً ولا كتاب منير. أفمن المعقول أن نظل نجادل في قضايا بعينها طوال قرون وقرون دون أن نقر إلى ثابت فيها، فلعل السبب في هذا أن كثيرين يغفلون الفارق بين (النقد) و(النقض)، فالأول من أجل سد لثغرات البناء وتزكية الايجابيات ورعاية بنات الأفكار وتعهدها بالضبط والتنقيح .. أما الثاني فهدم لأصل البناء وسوقه وفرعه. فكيف نكون على تلك الصفة برغم علمنا أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض. فيظل الجذر ولو احترقت الساق، ليلد من بعدها سوقاً أخرى ولو بعد حين. والثقة الآن هي أن أولئك (الناقضون) طبعاً وديدنا لن يكونوا أبطلاً يوما، ولن يفسح التاريخ لهم مجالاً في صفحات كتابه بعد طيهم بالموت.

إن البناء على الأصول مهارة وبطولة حقيقية تحفظ لبني الإنسان حرياتهم من الفوضى، وتعصم الذهن عن إراقة الوقت والجهد على أرض بوار..

فهكذا صارت ألمانيا بعد نهاية الحرب عام 1945م دماراً كاملاً.. وهكذا هي الآن بعدما أقاموها على ثوابت بشر الأرض هناك في بضع سنين.. فعل ذلك النساء بطولة مجردة، ومن بقي من الشيوخ حيث أن الشباب قد ماتوا في الحرب.. فكيف لو كنا أقمنا نحن ديارنا على ثوابت من لدن السماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى