بُناة العالم

عبد القادر دقاش
مصدر روعة الأدب وخلوده إنه يلاقي صدى في نفوس الناس ويضرب على الأوتار الحساسة من قلوبهم.
قال لي صديقي، أنا أعيد قراءة (أنا كارنينا) ل (تولستوي)..ولم انفك بعد من قراءة (البيان والتبيين) أبحث عن أثر لهذا (الجاحظ) بين بناة العالم.. فأديب العربية الأول، كان يحتال لإدخال عامة الناس في كتبه وحكاياته، في زمان كان يُحاسب فيه الأدباء ويحرمون من الجائزة إن هم تناولوا في كتبهم ما تقوله (السوقة والدهماء).. لذلك كانوا مولعين بالغامض والصعب والعصي من الكلام.. الشيء الذي جعل المتأخرين يكثرون من الشروح وشروح الشروح، فتتكدس الأوراق ألوفاََ مؤلفة، لتشرح متنا لا يتعدى العشرين صفحة..
كان الجاحظ بليغاََ، لكنه لم يدع بلاغته تناقض معقوله الفكري..فهو لم يكن مثلاََ، كالصاحب ابن عباد الذي يقال إنه كان ولوعاََ بالسجع إلى حد الإفراط.. وقد كان أديباََ ووزيراََ.. وقيل إنه كان يعزل الوالي أو يوليه ليحصل على سجعة! .. وروي أن (سجعة) اضطرته ذات يوم إلى عزل قاضي مدينة قُم. فقد قال: “أيها القاضي بقُم” ثم حاول أن يكمل السجع فقال: “قد عزلناك فقُم”..
وكثير من الأدباء من أسلافنا، كانوا (عبدة ألفاظ) اللفظ اللغوي أهم من الفكرة، فهم يضعون لأنفسهم المقاييس الأدبية ثم يبنون أحكامهم عليها، وهم بذلك يهملون أمر المجتمع البشري وما يجري فيه من أحداث. فالشاعر مثلاََ، يلتزم القاعدة النحوية وبحر الشعر، حتى أنه ليقول كلاماََ (فارغاََ) ليأتي المتأخرون فيقولون إن ما قاله لم تقله الجن في وادي عبقر.. ويضربون من شعره الأمثال..
وتولستوي.. كان كاتباََ عظيماََ لأنه كتب للشعب، مع أنه عاش نبيلاََ وسط النبلاء.. والكاتب العظيم ليس هو الذي يجعلنا نرى الدنيا بعينيه ونشهد على الناس والأشياء بضميره، وإنما هو الذي يعلمنا الاستقلال رائين ومشاهدين معاََ، وإن لم يكن في رؤيته وشهادته فقد فتح بصيرتنا.. وتولستوي ذو بصيرة..فهو مثل (فولتير) الذي نقل أوروبا من التعصب إلى التسامح ومن التقييد إلى التحرير، وغرس شجرة الديمقراطية، وحمل على العقائد والخرافات الضارة فحطمها.. لأنه كان يؤمن بضروة الحرية واحترام كرامة الإنسان..لأن النبلاء كانوا يستعبدون الفلاحين.
في كتابه (الحرب والسلام) يرى تولستوي، الحرب، ظاهرة غير عقلانية تتسم حوافزها بالانتهازية المطلقة. فالحروب على الدوام، تندلع لأسباب مزعومة مثل الدفاع عن المصالح الوطنية أو بث الوعي أو إعلاء كلمة الله، أو نشر الأفكار، والتي هي دوما أفكار متشددة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا خلفها.
والجاحظ أيضا، كان كاتباََ عظيماََ، (لكنه) لا يبدو فخوراََ بانتمائه إلى (السودان) فقد هجاهم في أغلب كتبه ورسائله كما فعل سائر الأدباء وكما فعل (المتنبي)..عدا رسالة واحدة هي (فخر السودان على البيضان).. هل يمكننا أن نقول أن هؤلاء الأدباء (من أسلافنا) لم يكونوا إنسانيين؟! (إنه سؤال…خطير.. لكن الأخطر هو أن نهاب الأسئلة). يجب علينا أن نصدم بالأسئلة.. فالأسئلة في حد ذاتها مهمة حتى لو لم نستطع الإجابة عنها.