
المحقق – متابعات
في خطوة قانونية بارزة، وجّه عدد من كبار القانونيين الدوليين، من بينهم قضاة ومدعون عامون سابقون في محاكم دولية وممثلون عن مراكز حقوقية رائدة، رسالةً مفتوحة إلى محكمة العدل الدولية، تتضمن رأيًا قانونيًا مستقلًا يؤكد بطلان التحفظات الشاملة على المادة التاسعة من “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”، المعروفة باتفاقية الإبادة الجماعية.
وتُعدّ هذه المادة (طبقا لدراسة أعدها مركز كرة للدراسات و التنمية)، حجر الزاوية في تمكين المحكمة من النظر في النزاعات المرتبطة بتفسير وتطبيق الاتفاقية.
وتمثل المادة التاسعة أداة جوهرية لمحاسبة الدول المتورطة في جريمة الإبادة الجماعية، إذ تمنح محكمة العدل الدولية الاختصاص القضائي للنظر في هذه القضايا.
ويرى الخبراء القانونيون أن التحفظات الشاملة عليها تُفرغ الاتفاقية من مضمونها، وتُقوِّض فعاليتها في منع الإبادة ومعاقبة مرتكبيها، لا سيما في ظل غياب أي آلية رقابية بديلة ضمن هيكل الاتفاقية.
*السودان في قلب القضية*
يأتي هذا الرأي القانوني في وقت تتجه فيه أنظار المجتمع الدولي نحو السودان، حيث لا تزال قوات الدعم السريع تواصل في ارتكاب انتهاكات وفظائع وصفتها تقارير مستقلة وأممية، بالإضافة الي حكومة الولايات المتحدة الامريكية، بأنها ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، متمتعة بدعم مستمر وإمداد للسلاح من دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي اتخذت الحكومة السودانية إجراءات لرفع قضية ضدها في محكمة العدل الدولية باتهامها بخرق التزامتها بحسب اتفاقية الإبادة الجماعية ودعم الإبادة الجماعية التي ترتكبها وكيلتها (قوات الدعم السريع).
وقد أبرز الرأي القانوني الذي تضمنته الرسالة المفتوحة فشل المجتمع الدولي في منع الإبادة في دارفور خلال العقدين الماضيين، واستمرار نمط الإفلات من العقاب حتى اليوم.
ومن بين أبرز الموقعين على الرسالة المفتوحة إلى محكمة العدل الدولية — التي من المتوقع أن تُصدر قرارها المبدئي بشأن قضية السودان ضد الإمارات يوم الأثنين القادم (5 مايو) القاضي والمدعي العام السابق للمحكمتين الدوليتين ليوغوسلافيا السابقة ورواندا ريتشارد جولدستون (Richard J. Goldstone)، الذي يُعد أول مدعٍ عام في محكمة جنائية دولية وأحد المؤسسين للبنية القضائية المعاصرة للعدالة الدولية في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. كما وقّع على الرسالة ديفيد م. كرين (David M. Crane)، المدعي العام المؤسس للمحكمة الخاصة بسيراليون، والذي أصدر أول لائحة اتهام ضد رئيس دولة أثناء توليه منصبه (ضد تشارلز تايلور، رئيس ليبيريا)، وهو ما شكّل سابقة قانونية عالمية. وشملت القائمة أيضًا إروين كوتلر (Irwin Cotler)، رئيس مركز راوول وولنبرغ لحقوق الإنسان ووزير العدل والنائب العام السابق في كندا، وهانس كوريل (Hans Corell)، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون القانونية والمستشار القانوني السابق للأمم المتحدة ، وجيرالد غاهيما (Gerald Gahima)، النائب العام السابق لرواندا بعد الإبادة الجماعية (1999–2003). وأيضاً وقّع كل من: فريدريك ميغريه (Frédéric Mégret)، أستاذ القانون الدولي في جامعة مكغيل الكندية، وميلاني أوبراين (Dr. Melanie O’Brien)، أستاذة القانون الدولي في جامعة أستراليا الغربية ورئيسة “الجمعية الدولية لخبراء الإبادة الجماعية”، وكريستين روسيلا (Kristin Rosella)، المديرة التنفيذية المشاركة في مؤسسة LexCollective القانونية، ويوناه دايموند (Yonah Diamond)، المستشار القانوني في مركز راوول وولنبرغ، إضافةً إلى الباحث القانوني السوداني معتصم علي (Mutasim Ali).
ويرى الموقعون أنه بناء على روح القانون الدولي فإن التحفظات على المادة التاسعة تحرم الضحايا، مثل من عانوا في السودان، من الوصول إلى العدالة الدولية، في وقت تُعدّ فيه محكمة العدل الدولية الآلية القضائية الوحيدة القادرة على محاسبة الدول على جريمة الإبادة الجماعية.
*قضية السودان ضد الإمارات، منعطف في مسار العدالة الدولية*
وبحسب الرسالة تُعدّ القضية التي رفعها السودان ضد دولة الإمارات أمام محكمة العدل الدولية لحظة فاصلة في مسار العدالة الدولية. ويزداد أهمية الرأي القانوني المستقل مع اقتراب موعد صدور قرار المحكمة، المرتقب يوم الأثنين المقبل، والذي تتهم فيه الخرطومُ أبوظبي بخرق التزاماتها الدولية من خلال دعم مليشيا قوات الدعم السريع، المتورطة في ارتكاب انتهاكات ترقى إلى جريمة الإبادة الجماعية، لا سيما في إقليم دارفور. وتتحفظ الإمارات على اختصاص محكمة العدل الدولية بالنظر في تطبيق اتفاقية الإبادة الجماعية، وتسعى إلى توظيف هذا التحفظ لعرقلة سير العدالة والإفلات من المحاكمة.
ويُتوقع أن يُشكّل الحكم المرتقب سابقة قضائية قد تعيد تعريف مسؤولية الدول عن أفعال حلفائها أو وكلائها في النزاعات الداخلية ذات الأبعاد الدولية. كما سيختبر هذا الحكم مدى التزام المجتمع الدولي — وعلى رأسه محكمة العدل الدولية — بتفعيل أحكام الاتفاقية، بعيدًا عن الضغوط السياسية أو التحفظات الشكلية.
وقد أكد الرأي القانوني أن عدد الدول التي لا تزال تحتفظ بتحفظات شاملة على المادة التاسعة لا يتجاوز 16 دولة من أصل 153 دولة طرفًا في الاتفاقية، وهو اتجاه آخذ في التراجع، ما يعزز الدعوة إلى اعتبار هذه التحفظات باطلة ومخالفة للغرض الأساسي من الاتفاقية، وهو “تحرير البشرية من آفة الإبادة الجماعية”.
وفي ظل تصاعد الأزمات في مناطق مثل السودان وغزة وأماكن أخرى، حذر الموقعون من أن بقاء المادة التاسعة عرضةً للتحفظات سيُبقي باب الإفلات من العقاب مفتوحًا، ويُمكِّن الجناة من الاحتماء خلف الحصانات السيادية، وهو ما وصفه القاضي الدولي السابق في محكمة العدل الدولية عبدو كورما سابقًا بـ”الظلم الإجرائي”.