رأي

الجانديقة

راشد عبد الرحيم

مرت علينا قبل يومين آخر جمعة في رمضان و هي التي تسمى (الجمعة اليتيمة) ؛

كان أهلنا في السودان يحتفون بهذه الجمعة و يعدون فيها طعاماً خاصاً يسمونه ب (طعام الموتى) و تحرص عليه الأسر التي يتوفى أحد أفرادها ذاك العام و يوزعون هذا الطعام على الفقراء و المساكين و الأطفال و تلاميذ الخلاوي.

يسمى هذا الطعام الدال علي طلب الرحمة للموتي ب (الرحمتات) و تعني أن (الرحمة) قد (أتت) .. ويتكون طعام الرحمتات من اللحم و اللقيمات و الفطائر و التمر .

 

للأطفال إحتفاء خاص بهذا اليوم المبهج لهم و من العادات أن يطوف عدد منهم بالبيوت و هم يحثون النساء علي إعداده و يطبخ في كنتوش و يوزع فيها أيضاً و يقال للجمع منها (كناتيش) و يصنع من الفخار و يسمونه بطعام (الحارة) و ينشدون لهن :

(الحارة ما مرقت .

ست الدوكة ما وقعت .

قشاية قشاية .

ست الدوكة نساية .

ست الدوكة عفريتة .

كبريتة كبريتة .

ست الدوكة عفريتة .

ليمونة ليمونة .

ست الدوكة مجنونة).

و ست الدوكة هي من تقوم على النار التي يطهي عليها هذا الطعام الخاص .

ثم يجوب الأطفال الحي يجمعون ما يجود به من أعدَّ الرحمتات .

أكبر مستفيد من هذا اليوم و ما يقدم فيه هم طلاب الخلاوي إذ يطوفون و هم يحملون (خرتاية) و هي تقوم مقام الحقيبة و تصنع من القماش .

يجمع طلاب الخلاوي كل هذا الطعام المتنوع بعضه علي بعض و يحملونه نهاية طوافهم إلى الخلوة حيث يقومون بنزع العظام عن اللحم و النوي عن التمر و يرمونه في الخرتاية جميعه مع بعضه البعض .

يصنعون من هذا الخليط كتلة واحدة و يقسمونها إلي قطع صغيرة في شكل كرات ثم يضعونه في سقف الخلوة و تصبح كتلة قوية تصمد لأيام طوال .

يسمون الواحدة من هذا الخليط من الطعام ال (جانديقة) و عند الحاجة لها تؤخذ الكمية المطلوبة للوجبة من الخليط و توضع علي النار في حلة و يضاف لها بعض الماء و تصير وجبة متنوعة مغذية و مساعدة في سد الجوع لساعات الدراسة.

 

الفكي (شيخ الخلوة) هو من يشرف علي إعداد الجانديقة و تحديد الكمية المطلوبة و تشكل وجبة مشبعة و مغذية و معينة علي الحفظ و ساعات الدرس الطويلة.

 

الرحمتات و الجانديقة من الأعمال الشعبية العريقة المنتشرة في السودان و تعكس مدى إهتمام المجتمع بالأطفال و بالخلاوي و طلابها .

كادت الخلاوي و تقاليدها العريقة و تقاليد المجتمع في دعمها و مساعدتها و الإحتفاء بها أن تندثر .

للحرب فوائد و من فوائدها أنها أحيت تقليد الخلاوي حيث نشأت في بعض المناطق التي أمها النازحون من ديارهم و كانت عونا لهم في مواصلة تعليم الأطفال بما تيسر مع العجز عن مقابلة تكاليف إنشاء مدارس مؤقتة لهم .

الخلاوي منتج إجتماعي سوداني رفيع و نواصل بإذن الله في حلقة قادمة التعريف بالخلاوي و نظم التعليم فيها خاصة و أنها تشكل نظاماً تعليمياً خسر السودان بتراجعه و يمكن أن يطور و يسهم في ترقية التعليم و النهضة التي نحتاجها بعد وقف الحرب .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى