رأي

لعبة الزمن

عبد القادر دقاش

الممنوع ليس مرغوباً فحسب، ولكنه مطلوب أيضاً. والأبواب المفتوحة المطلة على الحدائق والأزهار والأنهار، لا تثير انتباه أحد، وإنما ما يثير الانتباه ويحرك الفضول هو الباب المغلق، حتى وإن كان مطلاً على الفراغ.. لا لشيء إلا لأنه مغلق؟!

والكتب الممنوعة، والمحرمة بواسطة السلطات، هي أكثر ما يثير فضول القراء، وتاريخ الدنيا ملئ بالكتب من الطبعات الشعبية (الزائفة) التي تقول إنها تحوي بين دفتيها الكتب المحرمة التي أحرقتها السلطات على امتداد الأزمنة.. والتي تحرق معها أصحابها في كثير من الأحيان، حتى لا يعود الناس لمثلها.

في كتابه (الديمقراطية في الميزان) يقول، محمد أحمد محجوب، إن سلطات نميري – بعد مصادرة الكتاب ومنعه – حاولت تجريده من آخر أوراقه بعد أن أجبرته على مغادرة السودان إلى منفاه الاختياري، فقال لهم ساخراً: إن ما أكتبه موجود في رأسي .. وسأكتبه مرة أخرى.

والديمقراطية في الميزان لم يكن لعنة إلا على الدكتاتورية.. لكن السلطات تناهض الأفكار بصورة عامة.. مستخدمة الجماهير في بعض ذلك.. فقاتل فرج فودة لم يقرأ كتابه (الحقيقة الغائبة) لأنه لا يجيد القراءة أصلاً والذي حاول قتل نجيب محفوظ في (أولاد حارتنا) لم يطلع على إنتاج نجيب محفوظ ..وينسحب ذلك على المتظاهرين في القاهرة على ما كتبه طه حسين، وعلي عبد الرازق، وقاسم أمين، ومحمود أبو ريه، ومحمد خلف، ونصر حامد أبو زيد.. وقد شهدت الخرطوم أيضاً إحدى التظاهرات (أثارها إمام مسجدها الكبير) على مقال كتبه (حسن مكي) في إحدى الصحف تحدث فيه عن (الفتنة الكبرى) و حسن مكي لم يكتب كلاماً من بنات أفكاره إنما ذكر ما ذكره الطبري في تاريخه.. والطبري قابع في مكتبة إمام المسجد الذي لا يقرأ التاريخ.. ومع ذلك أطلق اللعنات على مؤرخ وباحث رصين..

وتظل اللعنات تلاحق كتباً وكتاباً كثيرين.. لكن (الماركيز دو ساد) الذي ارتبط مصطلح السادية باسمه، هو أكثر الكتاب الملعونين في التاريخ. وروايته (جوستين) هي من أكثر الروايات الممنوعة على مدار الأزمنة.

و (جوستين) كتاب مريع، لكن من يقرأه يفهم بصورة أوضح قوى الرعب التي تتحكم بالعالم.

روايات أخرى كثيرة أثارت الجدل وتعرضت للمنع، والتحريم، فرواية (موسم الهجرة إلى الشمال) منعت السلطات تدريسها في موطن الكاتب، و (الحمام لا يطير في بريدة) صدرت فتاوى في تحريمها.. وروايات أخرى كثيرة حرمت في الفضاء العربي.. إلا أن رواية (الخبز الحافي) للمغربي، محمد شكري، تظل من أكثر الكتابات إثارة للجدل..فشكري لم يكن متصالحاً مع مجتمعه المحافظ الذي ولد فيه، لذلك اختار أن يعبر عن نفسه بجرأة لا تخلو من النقد للمجمتع المغربي والعربي ككل. يقول شكري لمنتقديه: (أنا إنسان عاش التشرد..أكلت من القمامة ونمت في الشوارع، فماذا تنتظرون مني؟ أن أكتب عن الفراشات!!)..

سرد (شكري) في الخبز الحافي، أحداث حياته كما عاشها، دون تجميل أو تهذيب. والرواية ليست مجرد سرد للمعاناة، بل هي استكشاف لعمق النفس البشرية في ظل ضعفها ووهنها.. استخدم فيها (شكري) أسلوباً صادقاً وواقعياً لوصف حياته، غير متردد في الكشف عن تفاصيل تجاربه الشخصية التي تتضمن الجوع والتشرد والانحراف، بالإضافة إلى لحظات الضعف والاستغلال.

نقرأ في الخبز الحافي: (لقد علمتني الحياة أن أنتظر، أن أعي لعبة الزمن من دون أن أتنازل عن عمق ما استحصَدْته: قل كلمتك قبل أن تموت، فإنها ستعرف حتماً طريقها. لا يهم ما ستؤول إليه، الأهم هو أن تشعل عاطفة أو حزناً أو نزوة غافية… أن تشعل لهيباً في المناطق اليباب الموات. فيا أيها الليليون والنهاريون، أيها المتشائمون والمتفائلون، أيها المتمردون، أيها المراهقون، أيها “العقلاء”… لا تنسوا أن “لعبة الزمن” أقوى منا، لعبة مميتة هي، لا يمكن أن نواجهها إلا بأن نعيش الموت السابق لموتنا، لإماتتنا، أن نرقص على حبال المخاطرة نشداناً للحياة. أقول: يُخرج الحي من الميت. يُخرج الحي من النّتِن ومن المتحلل. يُخرج من المُتْخم والمنهار… يُخرجه من بطون الجائعين ومن صُلب المتعيشين على الخبز الحافي).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى