ثقافية

الكرامة والوطنية عند أهل السودان ثقافياً

 د. طارق البحر

إن كان هنالك من فائدة واحدة من هذه الحرب فهي أننا انتبهنا إلى مفهوم الوطنية والكرامة، ويتمثل ذلك في تداعي أهل السودان نحو معسكرات الكرامة للدفاع عن الوطن والعرض واكتشاف الذات السودانية وحركتها نحو تعميق سنة التكافل والتعاضد بين أهل السودان.

ويتضح ذلك في عدد من السلوكيات يمكن تلخيصها في الآتي:
– الإستضافة في السكن دون تكاليف مالية.
– الإطعام (المأكل والمشرب ) عبر دور التكاية، وهي ممارسة ثقافية سودانية عرفت قديماً بي عوج الدرب الديوانو الحوش الكبير.
– تجاوز التعصب السياسي والاندماج في ماهو مجتمعي.
– استنهاض الروح السودانية في التماذج بين ماهو عربي وأفريقي شمالاً، جنوباً، شرقاً وغرباً، وهنا تمظهرت الشخصية السودانية.

خلاصة هذا التفاعل هو الالتفاف حول القوات النظامية السودانية بمختلف أفرعها، وهي أيضاً ممارسة وثقافة سودانية نجدها متجذرة في حضارات السودان القديم (كوش، مروي ومملكة سنار) وإبان قيام الثورة المهدية، معركة كرري العسكرية، وهو أسلوب الفزع  بما يعبر عنه بالتدافع نحو حماية العرض والوطن.

الكرامة تعني في معناها البسيط  البذل والعطاء وهي صفة تمتاز بها الشخصية السودانية و هي مرتكز الرجولة عند الرجل السوداني، كما تؤكد في المقام الأول الدفاع عن كل مايملك الإنسان من مقتنيات وثروات في ظاهر الأرض وباطنها، وهي تشمل العرض الإنساني، بالدفاع عنه تحت مظلة الوطن الذي تؤكده المواطنة.

عليه تصبح الوطنية هي ناتج  العلاقة بين الكرامة والوطن، علاقة تداخلية لإثبات طبيعة الشخصية السودانية بأبعادها الثقافية الإجتماعية السياسية الإقتصادية التي تضرب في تاريخه البعيد ببعديه الزماني والمكاني.

سنحاول في هذه المقالة قراءة الشخصية السودانية، آثارياً وثقافياً عبر التاريخي الذي يعني تثبيت الحقائق من خلال التواريخ والأرقام المادية، وذلك بهضم الماضي واستحضار الحاضر الذي يركز علي المستقبل.

المستقبل يقصد به دولة العلم والثقافة التي ظللنا نبحث عنها منذ الإستقلال وحتى قيام هذه الحرب اللعينة من قبل القوة المتمردة التي عاثت فساداً لايخفي علي أحد صغيراً أم كبيراُ رجلاً أم امرأة داخلياً أو خارجياً، عبر التوثيق الذي ظهر في الميديا منهم أنفسهم.

المقصود بدولة العلم والثقافة هو سيادة دولة العلماء الذين يهتمون بالبحث العلمي عبر المؤسسات العلمية ومراكز البحوث العلمية في التخطيط والتنفيذ ووضع الاستراتيجيات طويلة وقصيرة المدي وتكون ملزمة للحكومات التي تأتي عبر صندوق الاقتراع، وبهذا نستطيع أن نثبت حق العلماء في اتخاذ القرار وفقاً لما  تحتاجه بلادنا في قطاعات التنمية قاطبة لنهضة البلاد وإنسانها الذي ظل يعاني من الحروب والفقر والجهل رغم توفر الموارد البشرية والإقتصادية، وعليه لا بد من التخطيط الثقافي المجتمعي في حياته الإجتماعية والثقافية.

يري دكتور كمال يوسف علي في ورقته الموسومة باسم نحو سياسة ثقافية تؤسس لمشروع وطني ثقافي مستدام مفهوم  السياسة الثقافية (cultural  policy) العمل علي وضع الخطط والبرامج التي يمكننا أن نشكل منها إستراتيجية متكاملة، تعكس أوجه النشاط والعمل والقيم التي تعيش بها وعليها الجماعات الإنسانية في مختلف أرجاء السودان علي نحو متوازن).

بهذا التعريف يمكن أن نستخلص الآتي.
١/ تحقيق وتثبيت مفهوم الوحدة الوطنية ثقافياً الذي رفع شعاره منذ الاستقلال سياسياً وفشل الساسة في تحقيقه.
٢/التعرف علي الإثنيات والجماعات الثقافية السودانية.
٣/ التبادل الإقتصادي عن طريق الإنتاج المادي الذي يعتمد علي الموروث المحلي (المأكل والمشرب، الصناعات المحلية، الأثاث، العمارة المحلية ….الخ ).

٤/ الترويج السياحي محلياً وعالمياً.
٥/ نشر ومعرفة الرياضات المحلية، مثال المصارعة في جبال النوبة.
٦/التعرف الفني المسموع والمرئي ( غناء، تشكيل، فخار، رقص، أزياء، إكسسوارات.. إلخ.
٧/ تبادل المعارف الفلكلورية والتي تشمل طريقة الغذاء الملبس ، حرفية الزراعة والرعي.
٨/ الاحتفالات الثقافية المحلية مثل أعياد الحصاد في جبال النوبة والنيل الأزرق والتي تعرف بجدع النار، إضافة إلى الموروث الثقافي الديني، الطرق الصوفية المولد النبوي الشريف وكل المناسبات الدينية والتي تصنف ضمن السياحة الدينية.
٩/ تغذية المحتوي الثقافي السوداني عبر الميديا وابتكار صفحات جاذبة ترويجية.
١٠/المساهمة في الميزانية العامة للدولة.

النتائج الثقافية أعلاه تمثل مرتكزاً في حوار الشخصية السودانية بأبعادها الثقافية، الإجتماعية، السياسية، والاقتصادية، ويمكن تفصيله الي جزئين:
أ/ حوار ذاتي وهو معني بالمثقف السوداني في شتى ضروب المعرفة والعلم بالانكفاء علي الذات ومحاولة التخلص من كل التشوهات التي تؤثر علي التفكير السودانوي الثقافي، وذلك بغرض الخروج والوصول إلى نتائج عملية تفضي إلى تحقيق تنمية ذات خصائص ثقافية سودانية تساهم في رفع وعي الإنسان السوداني وتعمل علي ترقيته مادياً ومعنوياً.
ب/ حوار يعتمد علي روح المواجهة ذات الشفافية العالية بين العلماء المثقفين يفضي إلى  نتائج علمية تصب في صالح الإنسان السوداني، بغرض تفجير طاقاته وفقاً للأحكام والقوانين التي تعزز من الثقة بالنفس، وتستند علي دستور يعبر عن أشواق السودانيين في تحقيق الديمقراطية التي تنبع من موروثنا الثقافي الآثاري الذي عبرت عنه مسلة بعنخي التي جمعت وحوت سمات الروح السودانية السمحة.

عرف السودان في تاريخه القديم بممالك كوش، مروي والممالك المسيحية المغرة وعلوة إضافة إلى مملكة سنار وممالك دارفور وتقلي في جبال النوبة.

في هذه الجزء سنتناول ممالك الشريط النيلي باعتبار أنها الأكثر انتشاراً في السودان القديم من الأقصر في مصر شمالاً والذي يبدأ بطريق الكباش وصولاً إلى مروي وجبل البركل الذي يمثل السلطة الروحية، وحتي مناطق المصورات والنقعة في ولاية نهر النيل الحالية.
والتي شملت جغرافياً تشاد وأفريقيا الوسطي وأرض الحبشة شرقاً وجنوبي حتي منطقة البحيرات العظمي.

وفي القرن الواحد والعشرين، تم اكتشاف الحلقة المفقودة في حضارة وادي النيل في منطقة كرمة في الولاية الشمالية منطقة الدفوفة، وهنا تم تثبيت ديوان الحكم وهذا يرجع إلى جهد الباحث السويسري شارليس بونيه الذي ظل يبحث وينقب لاكتشاف الحلقة المفقودة لأكثر من خمسين عاماً من العمل والبحث الآثاري الجاد.

كوش هو الاسم الذي أطلق على فترة من الزمن على تاريخ النوبة، وكانت لها عاصمتان هما مروي ونبته وهناك اتفاق عام بين الآثاريين أن كوش امتدت من عام ٩٠٠ إلى ٣٥٠ قبل الميلاد.

كما هو معروف أن الحضارة السودانية القديمة ساهمت عالمياً إبان الحضارة الاغريقية والرومانية القديمة بالآتي:

– أولاً السيوف.
– ثانياً الخيول.
– ثالثاً رماة الحدق، أي رماة السهم .
– رابعاً فخار كرمة المصقول داخلياً وخارجياً.
– خامساً العطور (الدلكة) والتي تصنع من الفتريته ، إضافة إلى عطور الحنوط وطرق التحنيط والتكفين.

*مسلة بعنخي*
أول دستور عرفه السودانيون في تاريخهم القديم، منحوتة علي جدران معبد البركل. كتبها خاليوت بن بعنخي:

– انني لا أكذب
– ولا أعتدي علي ملكية غيري.
– ولا أرتكب الخطيئة.
– وقلبي ينفجر لمعاناة الفقراء.
– انني لا اقتل شخصاً دون جرم يستحق القتل.
– ولا أقبل رشوة لأداء عمل غير شرعي.
– ولا أدفع بخادم استجارني إلى صاحبه.
– ولا أعاشر امرأة متزوجة.
– ولا أنطق بحكم غير سند شرعي.
– ولا أنصب الشراك للطيور المقدسة.
– أو أقتل حيواناً مقدساً.
– إنني لا أعتدي على ممتلكات المعبد، الدولة.
– أقدم العطايا للمعبد.
– انني أقدم الخبز للجياع.
– والماء للعطشي.
– والملبس للعري.
– أفعل هذا في الحياة الدنيا.
– وأسير في طريق الخالق.
– مبتعداً عن كل ما يغضب المعبود.
– لكي أرسم الطريق للأحفاد الذين يأتون من بعدي في هذه الدنيا والي الذين يخلفونهم
إلى الأبد.

نلخص التسلسل الوارد في هذه المسلة مع تحديد العناصر فيها:
١/ الصدق الأمانة.
٢/ الالتزام الأخلاقي.
٣/ الإحساس بالآخر.
٤/ الحماية.
٥/ الأمانة في المال العام .
٦/ النصرة للمظلوم.
٧/ العفة واحترام المرأة.
٨/ الالتزام بالقانون.
٩/ الرفق بالحيوان.
١٠/ الحفاظ علي هدايا الدولة.
١١/ بذل العطاء للمحتاجين.
١٢/ الالتزام بتقديس الحياة.
١٣/ الخوف من المعبود.
١٤/ الحفاظ علي حقوق الأجيال القادمة .
١٥/الإيمان بالآخرة.

أعتقد أن هذه المسلة تعبر عن الروح الإنسانية السمحة والمتسامحة مع الآخر حاكماً ومحكوماً، صغيراً وكبيراً، رجلاً وامرأة، طفلاً وطفلة، حيوان ومرعي.

بل هي ملخص ومشروع لعمل دستور وقوانين تصلح في زماننا هذا الذي ننشد فيه نحو الديمقراطية وبسط الحقوق والواجبات لغد أفضل للأجيال القادمة.
هذا ما يلخصه الشاعر السوداني إبراهيم العبادي في مسرحيته ألمك نمر ،التي قدمت في أول موسم مسرحي علي خشبة المسرح القومي بأم درمان 1967.

جعلي ودنقلاوي وشايقي إيش فايداني…
غير أسباب خلاف خلت أخوي عادني.
خلو نبانا يوصل للبعيد والداني.
يكفي النيل أبونا والجنس سوداني .

وهذه أول دعوة عبر الفنون إلى مفهوم ومصطلح السودان الواحد.

*مستخلص*
١/ ترسيخ وتعميق مفهوم الوطنية ثقافياً يؤدي إلى تماسك أهل السودان دون تمييز.
٢/ الجيش السوداني صمام الأمان والحافظ لوحدة البلاد بناء علي التباين القبلي والثقافي وسط منسوبيه من ضباط وضباط صف وجنود.
٣/ التفاعل المجتمعي ركيزة أساسية في التوجيه والإرشاد من أجل الدفاع عن الوطن.
٤/ قيام المعسكرات وتدافع الشباب والكبار نحوها يؤكد اتقاد روح الوطنية نحو البلاد .
المسؤلية المجتمعية تحتم الإستمرار في رفع الروح المعنوية للجيش السوداني والدفاع عن الوطن جنباً إلى جنب مع قواته المسلحة على كل المستويات.. اقتصادياً، إجتماعياً، ثقافياُ، علمياً، نحو سودان جديد ينعم بالاستقرار والتنمية الإجتماعية والثقافية مفجراً لطاقاته التنموية.

ملحوظه: دكتور كمال يوسف علي موسيقي وباحث في الثقافة السودانية صاحب مشروع خارطة ثقافية سودانية مستدامة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى