ظلال الحقيقة: إبن العلقمي وشعار “لا للحرب”

عز الدين بيلو
أكبر عيب فينا أننا أمة لا تقرأ التاريخ، وإذا قرأناه لا نتعظ به، مع أن التاريخ أعظم معلم للبشرية لما فيه من حكم وعبر.
ويكفينا كي نعرف أهميته أن ثلث القرآن عبارة عن قصص وتاريخ، لم يأت اعتباطاً، وإنما ليعتبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وكل قارئ له من بعده، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وأنا أطالع كتاب: التتار من البداية إلى عين جالوت، لمؤلفه: د. راغب السرجاني.. مررت بكثير من فصول الكتاب.. فوجدتها تحكي حالنا اليوم.. بأحداثه وشخوصه..
نريد في هذه العجالة أن نربط بين التاريخ والواقع، نبحث عن مواطن العبرة، وستلاحظ معي – أيها القارئ الكريم – أوجه الشبه بين ذلك التاريخ وواقعنا الحاضر.
فإذا استعرضنا تاريخ غزو المغول لبلاد الإسلام في القرن السابع الهجري، فسنجد ثمة اتفاق من أغلب المؤرخين أن ذلك الغزو قد تم التمهيد له من قيادات كانت متنفذة داخل الدولة (شأن كل غزو يتم التمهيد له على مر العصور) هذه القيادات هي التي ساعدت هولاكو في الدخول إلى بغداد سواء مع سبق الإصرار والترصد، أو بضعفها وهوانها كما نرى ذلك في شخصية الخليفة المستعصم بالله، وهو الخليفة الأخير لبني العباس.
ومن العجب عندما تقرأ سيرته الذاتية في كتب السير تجدهم يصفونه بأنه كان فاضلاً.. عادلاً.. مشهوراً بكثرة الصدقات وإكرام العلماء والعباد، ولكنه كان يفتقر إلى القدرة في إدارة الأمور والأزمات، وإلى الشجاعة التي تمكنه من أخذ قرار الحرب في الوقت المناسب، لذلك عندما حاصر التتار بغداد بمائتي ألف جندي، لم يستطع أن يستنفر شعب بغداد والذي كان يقدر وقتها بثلاثة ملايين مواطن، لمقاتلة هؤلاء، وصدهم عن دخول بغداد.
ولم يكن أيضاً قادراً حتى على اختيار أعوانه، فكانت حكومته في أضعف حالاتها، وكان كبير الوزراء فيها والشخصية الثانية في الدولة بعد الخليفة يومئذ هو (الوزير مؤيد الدين العلقمي)، وهو من الأخطاء الكارثية التي وقع فيها الخليفة المستعصم بالله، فقد ولاه الوزارة لمدة أربع عشرة سنة كاملة من سنة 642 هجرية إلى سنة 656 هجرية عندما سقطت بغداد!
لذلك كان أول ما فعله هولاكو وهو يتجهز لغزو بغداد أن اتصل بمؤيد الدين العلقمي، واستغل فساده واتفق معه على تسهيل دخول الجيش التتري إلى بغداد بالآراء الفاسدة والاقتراحات المضللة على قدر ما يستطيع، في مقابل أن يكون له شأن في مجلس الحكم الذي سيدير بغداد بعد سقوط الخلافة، فقام الوزير الفاسد بدوره على أكمل وجه.
طلب هولاكو من ابن العلقمي أن يقنع الخليفة (ضعيف الإرادة والشخصية) أن يخفض من ميزانية الجيش، وأن يقلل من أعداد الجنود، وألا يصرف أذهان الدولة إلى قضايا التسليح والحرب، وأن يحول الجيش إلى الأعمال المدنية والزراعية والصناعية وغيرها، وللأسف فقد وافقه الخليفة على ذلك، فقلل أعداد الجنود، من مائة ألف إلى أقل من عشرة آلاف جندي فقط!!
لم يكتف هولاكو بشراء رئيس الوزراء، بل عقد معاهدات مع بعض أمراء المسلمين حول بغداد ليسهل له غزوها، ثم أتبع ذلك بشن حرب نفسية على المسلمين، بدأها بمجازر بشعة في شمال العراق وما حولها أكثر فيها التتار من القتل والنهب والسلب، وسيطروا على القوافل التجارية، المتجهة إلى بغداد لإضعاف قوتها الاقتصادية.
ووصل التتار إلى بعض الأدباء والشعراء المسلمين؛ ليقوموا بحرب إعلامية قذرة داخل بغداد، يعظمون فيها من إمكانيات التتار ويقللون من إمكانيات المسلمين، فظهرت مقولات على شاكلة: التتار تصل إليهم أخبار الأمم ولا تصل أخبارهم إلى الأمم، وأن نساءهم يقاتلن كرجالهم، وأن خيول التتار تحفر الأرض بحوافرها وتأكل عروق النبات ولا تحتاج إلى الشعير، وأن التتار لا يحتاجون إلى الإمداد والتموين، وأنهم يأكلون جميع اللحوم حتى لحوم الآدميين!
إلى غير ذلك من أساليب الحرب النفسية.
لذلك عندما ظهر جيش هولاكو أمام أسوار بغداد التي كان يتخندق فيها الخليفة وأركان حكمه، عقد اجتماعاً عاجلاً جمع فيه حكومته وكبار مستشاريه، وكان على رأسهم الوزير الخائن مؤيد الدين العلقمي، فكان رأي العلقمي مهادنة التتار وإقامة مباحثات سلام معهم، ولا مانع عنده من كثير من التنازلات، وكان يقول : ليس هناك أمل، والحل الوحيد هو السلام غير المشروط.. ولا للحرب!!
وأشار على الخليفة بالخروج إليهم وعقد سلام معهم، ويبدو أن الخليفة مال إلى رأيه، فخرج إلى هلاكو في ملأ من أعيان بغداد، فقام التتار بضرب أعناقهم جميعاً بما فيهم حرس الخليفة وأولاده ثم قتل الخليفة بعد أن دلهم على أماكن ثروته. بعد ذلك اقتحموا بغداد وأعملوا فيها السيف لأكثر من شهر، ولم ينج إلا من اختفى، فأمر هولاكو بعد ذلك بعد القتلى فكانوا مليون وثمانمائة ألف، وقيل بل تسعمائة ألف قتيل غير من لم يعد ومن غرق، ثم نودي بعد ذلك بالأمان فخرج من كان مختبئاً، وهؤلاء أذاقوهم كل أنواع الهوان والذل.
وكافأ هولاكو الوزير الخائن ابن العلقمي بالوزارة مدةً قصيرة، ولكنه كان قد أهين على أيدي التتار رغما عن ذلك، فقد شوهد يركب دابته ومن ورائه جنود من التتار يدفعونه، فنظرت له امرأة وقالت له (إيهٍ يابن العلقمي، أهكذا كان بنو العباس يعاملونك؟) فتأثر لذلك ومات مهموماً مغموماً.. بعد أن رأى بأم عينيه وسمع بأذنيه من الإهانة والذم ما لا طاقة له به..
وهذا مصير كل خائن لوطنه.