حماية المدنيين.. مِن مَن؟

عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان
في خضم الحرب الدائرة في السودان، يتردد كثيرًا على ألسنة بعض السياسيين السودانيين ونظرائهم الدوليين والمنظمات الدولية مصطلح “حماية المدنيين”، وكأنها عبارة مكتفية بذاتها، تُطلق في الهواء دون تفاصيل، فتُحدث صدى فارغًا لا طائل منه. لكن السؤال الجوهري الذي يتجنبه الجميع، أو يتعمدون بتره، هو: حماية المدنيين مِن مَن؟
الإجابة التي يخشاها البعض ويغضّ الطرف عنها، واضحة كالشمس في رابعة النهار: حماية المدنيين من مليشيا الدعم السريع المتمردة الإرهابية. فهذه هي الجهة التي ظلت ترتكب الفظائع والانتهاكات المروعة بحق المدنيين منذ لحظة تمردها، بدءًا من العاصمة، مرورًا بولايتي الجزيرة وسنار، وصولًا إلى ولايات دارفور وخلصة في غربها وشمالها وأخيراً مدينة الفاشر الجريحة ومعسكر زمزم المكلوم.
حين استعاد الجيش السوداني ولايات الخرطوم وسنار والجزيرة، لم يفعل ذلك فقط لاسترداد أرضٍ منقوصة السيادة، بل أوقف سلسلة من الجرائم التي طالت الأرواح والممتلكات والأعراض. لقد كانت عودة الجيش تعني شيئاً واحداً: عودة الأمان وحماية المدنيين بالفعل، لا بالشعارات.
وفي الوقت الذي يحاصر فيه المتمردون مدينة الفاشر، ويتعرض فيه نازحو معسكر زمزم لانتهاكات إنسانية لا حصر لها، تتصاعد الأصوات مجددًا تطالب بحماية المدنيين، دون أن تشير إلى الجهة المعتدية، وكأن المليشيا غير موجودة، أو أنها الضحية وليست الجلاد.
بل إن العديد من الدول التي أصدرت بيانات شجب وإدانة لمجزرة معسكر زمزم لم تشر إلى الفاعل مباشرة، مما يفرغ تلك البيانات من مضمونها ويجعلها أقرب إلى المجاملة السياسية.
وفي هذا السياق، ناشدت منظمة هيومن رايتس ووتش قادة العالم المجتمعين في مؤتمر دولي يُعقد في لندن اليوم الثلاثاء اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية المدنيين في السودان، وتأمين وصول آمن وسريع للمساعدات الإنسانية، ومحاسبة الأطراف المسؤولة عن الانتهاكات الجسيمة.
كما سبق و أشار مبعوث المملكة المتحدة الخاص إلى السودان، ريتشارد كراودر، إلى أن هدف المؤتمر هو جلب السلام وإنهاء معاناة السودانيين، وذكر أن تقدم الجيش خلال الأيام الماضية يفتح الباب أمام مرحلة جديدة للمواطنين، مشددًا على وجود حاجة ماسة لحماية المدنيين في الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور.
والمفارقة الأكبر أن هؤلاء المتحدثين عن حماية المدنيين، لا ينظرون إلى واقع المدنيين في ولايتي الشمالية ونهر النيل، الذين أصبحوا الآن تحت تهديد حقيقي بعد أن أطلق قادة المليشيا تهديداتهم العلنية بنقل الحرب إلى تلك المناطق الآمنة، وفعلاً شرعوا في تنفيذ تلك التهديدات عبر ضرب البنى التحتية للكهرباء وخطوط الإمداد بالوقود.
أيّ منطق معكوس هذا؟!
المدنيون في مناطق سيطرة الجيش يُهدَّدون، من قبل المليشيا وتُستهدف خدماتهم الأساسية، ومع ذلك لا يُشار إلى الفاعل صراحة، بينما يتم اتهام الجيش حينما يتحرك لتحرير المدن وإنقاذ أهلها من براثن المليشيا.
إن أفضل حماية للمدنيين لا تكون بمناطق عازلة وهمية، ولا بتكرار الشعارات الجوفاء في منصات المجتمع الدولي، بل بتحرير كل شبر من السودان من سطوة المليشيا، وبسط يد الدولة والجيش، وعودة سيادة القانون.
إن الحماية الحقيقية تبدأ بالصدق في توصيف مَن يهدد أمن المواطنين، وبالاعتراف أن أي منطقة لا تزال تحت سيطرة مليشيا الدعم السريع هي منطقة معرضة لانتهاكات جسيمة ومتكررة. وكل دعوة لحماية المدنيين لا تضع إصبعها على هذه الحقيقة هي دعوة مُضلِّلة، لا تخدم سوى تمديد عمر المليشيا وإطالة أمد معاناة الشعب السوداني.
ختامًا، نقولها بوضوح:
لا حماية للمدنيين دون هزيمة المليشيا، ولا أمان دون عودة دارفور وكافة مناطق السودان إلى حضن الدولة.