علاقات إسرائيل بدول الآسيان ومدى تأثرها بالحرب الإسرائيلية على غزة (الدول الإسلامية نموذجاً) 5-5

د. أحمد عبد الباقي
علاقات إسرائيل بماليزيا
أول تواصل بين ماليزيا (اتحاد الملايو حينها) وإسرائيل كان في عام 1956 قبل الاستقلال بعام واحد حينما زار وزير خارجية إسرائيل وقتها، ماليزيا وعند استقلالها في عام 1957 صوتت إسرائيل لصالح انضمام ماليزيا لعضوية الأمم المتحدة، وأخبر الوفد الماليزي إسرائيل حينها أن بلاده ستعترف بإسرائيل، ولكنها لن تقيم معها علاقات دبلوماسية، وفي 1959م أخبر تانكو عبد الرحمن أول رئيس وزراء لماليزيا أن بلاده لن تقيم علاقات مع إسرائيل؛ لأن الشعب المسلم لن يقبل ذلك.
أول وجود إسرائيلي فعلي في ماليزيا كان في عام 1964م حيث فتحت شركة Astraco الإسرائيلية فرعا لها في كوالالمبور تحت مسمى Interasia إلا أن مدير الشركة الإسرائيلي طرد من ماليزيا في يناير من عام 1966م، وفي نوفمبر من العام نفسه أعلن تانكو عبد الرحمن رئيس الوزراء الماليزي من داخل مجلس النواب الماليزي أن بلاده لن تقيم علاقات مع إسرائيل، وفي 1974م منعت ماليزيا رسميا دخول الإسرائيليين إلى أراضيها، وما زال الحظر من حينها ساريا مع وجود حالات استثنائية فرضتها بعض التقديرات السياسية.
تولي د. مهاتير رئاسة الوزراء في ماليزيا في عام 1983م، واتخذ خطا متشددا اتجاه التعامل مع إسرائيل، واستمر ذلك التشدد حتى 1993م لتخف حدته بعد توقيع اتفاق أوسلو، ورغم ذلك أعلن د. مهاتير أن بلاده لن تقيم علاقات مع إسرائيل؛ لأنها لا تعترف بدولة فلسطين.
كثر انتقاد د. مهاتير لإسرائيل في المنابر الإقليمية والدولية لدرجة أنه اتهم بمعاداة السامية، ثم استمر رفض ماليزيا لإقامة علاقات مع إسرائيل بعد تنحي د. مهاتير عن رئاسة وزراء ماليزيا في عام 2003م؛ ثم استمر ذلك الرفض في عهد عبد الله ونجيب تون رزاق وأنور إبراهيم حاليا في عام 2025م.
رغم رفض ماليزيا الرسمي والشعبي لإقامة أي علاقات دبلوماسية أو تجارية مباشرة مع إسرائيل، إلا أن إسرائيل تستغل وجودها في دول الآسيان خاصة في دول مثل سنغافورة لتوريد بعض المنتجات الإسرائيلية إلى أسواق ماليزيا، ولكنها عن طريق طرف ثالث أي شركات محلية سنغافورية أو الشركات المتعددة الجنسيات، وفي هذا الصدد أظهرت بعض الإحصائيات حالات تبادل تجاري بين البلدين غير معلنة، وربما غير مباشر بين ماليزيا وإسرائيل خاصة في مجال رقائق الحاسوب التي ننتجها شركة Intel لماليزيا، وبلغ ذلك التبادل حوالي 600-700 مليون دولار رغم أنه ضئيل، ولكنه يظهر في بعض التقارير الإحصائية الأوروبية والإسرائيلية التي أشارت إلى أن ماليزيا كانت الشريك التجاري رقم 15 لإسرائيل (نسبة 8% من إجمالي تجارتها الخارجية) في عام 2020م حيث بلغت تجارة إسرائيل الخارجية مع ماليزيا بصورة غير مباشرة (6667.6) مليون رغم أن مثل هذه الإحصائيات تظهر في الإحصائيات الماليزية تحت مسمى “دول أخرى”،
هنالك علاقات سياحية مباشرة بين ماليزيا وإسرائيل حيث تسمح ماليزيا لمواطنيها من المسلمين والمسيحيين تحت ما يسمى بالسياحة الدينية بزيارة بيت المقدس، ولكن ببعض الشروط منها الدخول عن طريق الأردن وألا تزيد الفترة عن 10 أيام الخ…. وبالمقابل لا تسمح ماليزيا بدخول حملة الجوازات الإسرائيلية إلى أراضيها حتى ولو عبورا عبر مطارات ماليزيا، رغم وجود 6 أو 7 حالات دخل فيها إسرائيليون إلى ماليزيا إما للمشاركة في دورة ألعاب عالمية أو بعض المؤتمرات العالمية مثل تلك التي تنظمها الأمم المتحدة.
عمليات إسرائيل الاستخباراتية في ماليزيا
يبدو من بعض الاستنتاجات والتحليلات الاستخباراتية أن إسرائيل تستغل علاقات حلفائها مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وسنغافورة، والتي تحتفظ جميعها بعلاقات دفاعية وثيقة مع إسرائيل لتبادل المعلومات الاستخباراتية المطلوبة لتسخرها إسرائيل لتنفيذ بعض العمليات الاستخبارية كما حدث في ماليزيا فمثلا: اغتال مجهولون في عام 2018م مهندس الحاسوب والأستاذ الجامعي الفلسطيني فادي البطش – الذي كان يقيم في ماليزيا – بإحدى ضواحي كوالالمبور، واتهمت السلطات الماليزية جهات أجنبية لم تسمها، ولعلها إشارة من طرف خفي إلى عملاء الموساد بماليزيا، في حين اتهمت أسرة البطش إسرائيل بصراحة باغتيال ابنها الذي صرحت حماس بأنه أحد منسوبيها بماليزيا، وفي عام 2022م أفشلت الشرطة الماليزية محاولة اختطاف مُهندسي حاسوب فلسطينيين في قلب العاصمة الماليزية كولالمبور، واحتجز المختطفون أحدهم بأحد المنتجعات السياحية ليستجوبه الموساد عن أنشطة حماس في مجال تقنيات الحاسوب من خلال الفيديو بمساعدة المختطفين الماليزيين، وبعد إطلاق سراح المختطف، أفادت الشرطة الماليزية أن المُتهمين بالاختطاف مواطنين ماليزيين دربهم الموساد خارج ماليزيا لتنفيذ العملية، وفي مارس عام 2024م اعتقلت السلطات الماليزية مواطن يحمل الجنسية الفرنسية دخل البلاد عن طريق مطار كوالالمبور قادما من الإمارات، واتضح أنه معه جواز سفر إسرائيلي، وضُبط بحوزته مسدس وأعيرة نارية، وفي التحري أبان أنه يستهدف اغتيال مواطن إسرائيلي في ماليزيا، ولكن الشرطة الماليزية تتهمه بأنه أحد أعضاء الموساد خاصة أن السلطات الماليزية اعتقلت بعض المواطنين الماليزيين لاتهامهم بمد المتهم بالأعيرة النارية عن طريق تايلند.
يبلغ عدد سكان ماليزيا 35.13 مليون نسمة (تعداد 2023) و 65% منهم مسلمين، أي ما يعادل (21) مليون نسمة والبقية نصارى، هندوس، بوذيين وملل أخرى (تعداد 2023). يتفاعل المسلمون بقوة بقضية غزة التي تمثل محور اهتمامهم، فتخرج المظاهرات دعما لغزة، وترفع الإعلام الفلسطينية، وتوضع على أبواب المتاجر، وتلصق على السيارات وهنالك العديد من منظمات المجتمع المدني الماليزية التي تنشط في جمع التبرعات وإرسال المساعدات إلى غزة، ولفلسطين سفارة في ماليزيا (تحت قيادة حركة فتح)، وزار نجيب تون رزاق رئيس وزراء ماليزيا الأسبق بمعية عدد من وزرائه غزة في عام 2013 لكسر الحصار عليها، وتوصيل إغاثة إنسانية، ويمكن القول أن قرب وبعد القادة السياسيين الماليزيين من فلسطين وغزة خاصة إبان الحملات الانتخابات الماليزية له تأثير سياسي، سجلت ماليزيا بصفة عامة مواقف سياسية حاسمة في تاريخ القضية الفلسطينية، وقدمت الدعم السياسي لحماس، وأتاحت للطلاب الفلسطيين منح للدراسة بماليزيا، ودعا رئيس وزرائها أنور إبراهيم لطرد إسرائيل من الأمم المتحدة ودعم قرار وقف إطلاق النار الذي خرقته إسرائيل.
علاقات إسرائيل ببروناي دار السلام
تطل سلطنة بروناي على بحر الصين الجنوبي بساحل يمتد 161 كيلو مترا مربعا، وتبلغ مساحتها الإجمالية 5,765 كيلومتراً مربعاً، مما يجعلها أصغر دول الآسيان، وهي تجمع بين صغر المساحة وغنى الاقتصاد. ويبلغ عدد سكانها حوالي 415,717 نسمة، مع تنوع سكاني وثقافي، ويشكل المسلمون 78% من إجمالي السكان، ليس بروناي علاقات دبلوماسية بإسرائيل، وربما هنالك علاقات تجارية غير مباشرة وضئيلة جدا عن طريق أطراف ثالثة مثل دول الجوار أو الشركات المتعددة الجنسيات، ولبروناي سفير مفوض فوق العادة غير مقيم لدى دولة فلسطين يقيم بالعاصمة الأردنية عمان كما تسمح بروناي لمواطنيها بزيارة الأماكن المقدسة في فلسطين ضمن السياحة الدينية، وعموما تدعم بروناي القضية الفلسطينية، وتقف مع القرارات الدولية المساندة لها، وتوفر منح دراسية لعدد محدود من الطلاب الفلسطينيين، وتقدم دعما ماليا لفلسطين عن طريق منظمات الأمم المتحدة والأونروا.
يمكن القول إن عام 1999 شهد خطوات كبيرة باتجاه تعزيز العلاقات الإسرائيلية بدول الآسيان باستثناء الدول الإسلامية التي ما زالت تدعم القضية الفلسطينية بشدة، ونشأت العلاقات بين إسرائيل والآسيان بدوافع البرغماتية الآسيوية المتصاعدة ونجاح إسرائيل في التوافق والتجاوب مع ما تحتاجه هذه الدول التي ترغب جميعًا في تعزيز مواقعها الاقتصادية، وترغب في الاستفادة من الخبرة الإسرائيلية التكنولوجية، كما ترغب في توظيف اللوبي اليهودي القوي في الولايات المتحدة لخدمة مصالح هذه الدول. ويشار إلى أن دول الآسيان اتخذت حيال حرب إسرائيل على غزة في عام 2023م مواقف حذرة متأثرة ببعد المسافة الجغرافية، والتحالفات الجيوسياسية، والاعتبارات الدينية، والعوامل الاجتماعية والسياسية الداخلية لهذه البلدان. وإزاء ذلك يمكن تقسيم هذه الدول إلى قسمين: هما الدول المسلمة والأخرى غير المسلمة. فالدول المسلمة (إندونيسيا، ماليزيا وبروناي) وقفت بشدة مع غزة، ودعمت القضية الفلسطينية، إضافةً إلى الحراك الشعبي المتمثل في تظاهرات مليونية وحشود شعبية ضد إسرائيل أمام السفارات الغربية، ورفع الأعلام الفلسطينية في الشوارع، وعلى السيارات والمباني والمراكز التجارية والدعوة إلى مقاطعة الشركات التجارية الداعمة لإسرائيل، وشملت تلك المقاطعة على سبيل المثال سلسلة مطاعم MacDonald، KFC و Starbucks ومنتجات كوكوكولا ونسليه الخ… وخسرت بسبب هذه المقاطعة بعض هذه الشركات ملايين الدولارات من أرباحها، وأغلقت بعضها أبوابها، أما ردود أفعال الدول غير المسلمة، فكانت أكثر حيادية تجاه حرب غزة وبعضها -مثل الفلبين وتايلاند، اللتين تتمتعان بعلاقات دافئة مع “إسرائيل” منذ سنوات، وجدت صعوبة في التوصل إلى حل وسط يهدئ غضب مواطنيهما بشأن مقتل العمال المهاجرين الفلبينيين والتايلنديين في “إسرائيل” وأسر بعضهم (أطلقوا لاحقا بعد التواصل مع حماس كما في حالة تايلند)، وتواجه الدولتان أيضاً مشكلة تهدئة الرأي العام الذي تحول ضد الحرب على غزة بشدة، وهنالك دول مثل فيتنام -التي توصف بأنها نادراً ما تحاول أن تكون في المقدمة في أي قضايا عالمية و تقيم علاقات دبلوماسية واتفاق تجارة حرة معها- دعت إلى وضع حدٍ فوري للعنف في غزّة موضحة أنه إذا استمر الصراع فقد تضطر إلى خفض مستوى بعض تلك العلاقات الدبلوماسية والتجارية، أما سنغافورة الشريك التجاري الكبير لإسرائيل لدول الآسيان، فقد بدأت في التحوّط بغية تجنّب إثارة غضب عدد كبير من سكانها المسلمين وغير المسلمين الذين استغلوا وسائل التواصل الاجتماعي للتنديد بانتهاكات إسرائيل ضد سكان غزة.
تتضح أيضا تأثيرات حرب غزة على علاقات إسرائيل بالآسيان من خلال تقرير “حالة جنوب شرق آسيا” لعام 2024م (مسح سنوي يجريه معهد يوسف إسحاق (ISEAS) في سنغافورة، باعتباره مقياسا تقريبيا للمشاعر الإقليمية تجاه القضايا التي تمس الإقليم؛ حيث يستجوب الاستطلاع في كل عام حوالي 2000 من النخبة، مثل المسؤولين الحكوميين والمفكرين وأعضاء المنظمات غير الحكومية من دول جنوب شرق آسيا العشر) الذي بين أن القلق الجيوسياسي الأكبر في المنطقة في هذا العام كان الحرب الإسرائيلية على غزة وقد أدرج أكثر من 46% من المشاركين الصراع المستمر باعتباره مصدر قلقهم الأكبر متفوقا على الحرب الأكروانية والنزاع في بحر الصين الجنوبي، وأشار التقرير إلي أنه “على الرغم من بعد المسافة الجغرافية، فقد ترددت أصداء الصراع بقوة في هذه المنطقة المتنوعة والمتعددة الأعراق والأديان”. كما أظهر الاستبيان المخاوف من أن تؤدي الحرب إلى إحياء روح التطرف وسط المجموعات المسلمة خاصة في الدول التي بها أقليات مسلمة كبيرة مثل تايلند، سنغافورة والفلبين مما يهدد الأمن الداخلي والسلم المجتمعي وسط هذه المجتمعات المتعددة الثقافات والأعراق.
للاستفادة من مواقف دول الآسيان تجاه حرب غزة بطريقة إيجابية يمكن أن تشكل الدول الإسلامية بالآسيان (إندونيسيا، ماليزيا وبروناي) إضافة إلى بنغلاديش، باكستان، مالديف (وهي فقط الدول المتبقية في آسيا كلها، وليست لها علاقات بإسرائيل) ودول المغرب العربي وبعض الدول الأفريقية توجها جديدا من داخل منظمة التعاون الإسلامي للضغط باتجاه دعم القضية الفلسطينية وغزة بصورة أقوى، ودعم الحراك الشعبي على وجه الخصوص في هذه الدول لتوجيه الرأي العام العالمي لدعم القضية الفلسطينية وتأليبه ضد جرائم إسرائيل والدعوة إلى محاكمتها على جرائمها ومقاطعتها سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا وهذا أضعف الإيمان والله المستعان.