التحضير لما بعد الحرب (1)

الرفيع بشير الشفيع
إن الفوضى الضاربة بأطنابها في العالم وفي المنطقة، بسبب كلي يتمثل في التوجهات العالمية الجديدة منذ إطلاق رسن العالم للفوضى الخلاقة لتُحدث تشكيلا جديدا وتغييرا مرصودا لمنطقتنا، أثر بالطبع في كثير من الدول ويؤثر الآن في السودان بصورة أكبر تؤثر في وجوده من عدمه، فالدور العالمي السلبي منذ بداية الثمانينيات قد عزز وزاد وطأته على السودان منئذ ، مضافاً لذلك ما حدث له منذ نيفاشا وما بعدها من نقل لمشروع التقسيم لبقية أقاليمه، بما يحدث منذ 2011 وإلى الآن من تفتيت.
وللأسف نحن في السودان نستجيب للتفتيت عبر الفوضى الخلاقة ، التي بانت معالمها تماما بعد الهياج السياسي في أواخر 2018 والذي تقوده واجهات سياسية داخلية متصلة بالخارج وتمثل هي نفسها خروجا على الإجماع الوطني وتختلف عنه في مفاهيمها للوطن وأمنه ونمائه ، والألتزام بخصوصيته وسيادته ، وقد رهنت الوطن للخارج بأتفه الأثمان.
وإذا بحثنا في ذلك نجد أن الخلافات في إدارة الوطن وفي انعدام نظم إدارية دستورية وقانونية ، كانت ولا زالت تمثل الثغرة الأكبر والتي نفذ منها أصحاب مشروع التفتيت ، وتلك الثغرة جعلت الوطن في مهب الريح.
الشيء المؤسف أننا ما زلنا نستجيب للتفتيت بعدم قدرتنا لسد تلك الثغرة ، بعمل دستور وقوانين ترجع سفينة الوطن لمسارها الصحيح ، ونستجيب لذلك ، بأننا ندير السودان بصورة عشوائية ، وقاصرة وأغلب دول العالم صغيرها وكبيرها عرفت كيف تدير أوطانها وتعمل بدستور يحدد المعالم الوطنية لإدارة دولاب الدولة ، وتحدد عمل أي مؤسسة و أي حزب أو حركة سياسية، بحيث تكون مرتكزات الحق الوطني تلك الأعمال في المعنى العام والأهداف العامة للوطن ولا تخرج عنه ، وتمثل أعمالها وأهدافها ، الهدف العام لمعاني الوطن ، وفقاً لموجهاته الملزمة لكل حزب وكل مؤسسة كشبكة وطنية مترابطة ومتصلة تصب في محصلة خير الوطن.
وغالب دول العالم تعمل وفق معالم الدستور العام ولوائحه بحيث تلزم أي حزب أو مؤسسة بعمل لوائحها وموجهاتها الخاصة بما لا يتصادم مع الدستور العام للوطن ، لكننا نحن في السودان ، تتداخل عندنا المفاهيم الذاتية والمصالح الحزبية بحيث يمثل أي حزب دولة داخل دولة حتى صار السودان دويلات وجزر متشابكة ومختلفة داخل دولة واحدة .
الأحزاب في أغلب دول العالم و المنظمات و المؤسسات تعمل وتلتزم بالدستور العام وتطبق قوانينه التي تحكم توجهاتها وأداءها ولا تخرج عن الطوع والطوق الوطني كما يحدث عندنا.
والدساتير الخاصة بكل حزب لها شقان، الشق الأول في دستور كل حزب هو ما يلزمه بموجهات وأحكام الدستور العام والقوانين التي تنظم العمل السياسي الحزبي والمؤسسي ، ولا يخرج الحزب أو المؤسسة عن ذلك الإلتزام ، والشق الثاني هو ما يميز الحزب بلوائحه وموجهاته الخاصة التي تميزه عن الأحزاب الأخرى وتبني مفاهيم ومشاريع تخصه وتميزه بحيث تكون أيضا تحت عباءة الدستور الوطني ، لا تتصادم معه ولا تنتقصه، روحا وعملا، بحيث أن الحزب السياسي يمثل مؤسسة من المفترض أن تكون وطنية التوجه والمقاصد ، على أن يسمح لأي حزب بالحد الأدنى ، من الممارسات خارج الدستور العام بما يميز أداء ذلك الحزب طالما أنها لا تتعارض ومصلحة الوطن العامة ، من ابتكارات وكفاءة تميزه عن الأحزاب الأخرى بحيث تجعله منافسا وطنيا جاذبا.
و بما تميزه عن الأحزاب الأخرى وتميز أداءه وأعماله وتكون بصمة وخاصية مميزة لذلك الحزب في كسبه للعملية التنافسية (انتخابات وجماهيرية وعملا).
ونتاج ما تفعله الأحزاب والمشاريع الأيديولوجبة من خبط العشواء بسبب عدم مقدرتنا لإدارة الأحزاب أصبحنا نملك دويلات بعدد تلك الاحزاب داخل هيكل دولة واحدة، كل دويلة تعمل بمزاجها الخاصة وبأنانية حزبية ظاهرة تعتمد أحيانا (أمزجة وموجهات الورثة أو أهدافها ، أو تعمل بموجهات أيديولوجيا ضيقة لتحقق أهدافها بعيدا عن الأهداف العامة للوطن ووحدته في منهجه السياسي لإنعدام المنهج (الدستور) نفسه ، وقد أصبحت أي مؤسسة وأي حزب يخضع للأمزجة الخاصة وموجهاتها ، أو موجهات إداراتها وقياداتها المتناطحة.
هذه هي أهم الأسباب لمساهمتنا جميعا ورضانا بتفتيت الوطن امام أعيننا ، وهذه هي الاسباب الحقيقة في الخلاف والشقاق السياسي المتعدد والمتلون بعدد الأحزاب ، وهم أسباب التصادم مع الآخر والإحتراب فيما بيننا ، بما يمثل تعقيدات المشكل السوداني.
يجب علينا إحداث تغيير حقيقي وايجابي، وطني في منهجية الحراك السياسي للأحزاب والمؤسسات وادائها بحيث تلتزم جميعها دون استثناء، بلوائح دستور قومي وبمباديء وطنية عليا ، تمثل هيكل الوطن السيادي وفاعليته كمؤسسة واحدة تسمى (الوطن) تكون الأحزاب جزءاً من ذلك في هيكلها ومتفاعلة مع الوطن وتخدم مصالحه العليا والدنيا، وألا يسمح لأي حزب أو ممثل حزب بالخروج عن الشكل والمضمون العام للدستور، الذي يمثل سيادة وإرادة الوطن.
وألا يسمح لأي حزب التواصل مع الخارج فيما يخص الوطن ، لأن التواصل مع الخارج هو من أخص خصائص السيادة الوطنية، ويجب أن تقطع وزارة الخارجية دابر العمالة الخارجية والمكونات السياسية الخارجية التي تمثل دولة موازية خارجية ، وأن توقف أي نشاط سياسي خارجي فردي أو جماعي ، سواء كان ذلك الحراك يتمثل في تنسيقيات سياسية أو حزبية أو جاليات تمارس العمل السياسي القذر والعميل ، وأن تكون هنالك مراقبة ومحاسبة رادعة لمثل تلك الممارسات.
ويجب تفعيل دور السفارات وعمل لوائح ونظم ملزمة لها بحيث تراقب وتتابع الأبتذال السياسي في الخارج من عمالة أو اتصال بمؤسيسات ومنظمات الدول الأخرى التي تمارس مع العمالة والأرتزاق ، ووضع قوانين سيادية تحرم تدخل المنظمات والدول الأخرى في السودان بما يحترم ويحفظ سيادته وماء وجهه ، وهذا دور وزارة الخارجية ، مع خلق صداقات وعلاقات إيجابية( win-win) مع الدول الأخرى للتأثير في مفاهيمها ، وتقديم السودان كدولة صديقة وشريكة في مصالح الدول الأخرى بطرح سياسة علاقات صديقة وصادقة وجاذبة لتلك الدول لتغيير علاقاتها مع السودان بصورة ايجابية ، وأعتقد أن وزارة الخارجية الآن تتجه نحو هذه الوجهة الوطنية وتتحمل المسؤولية لإحداث ذلك التغيير.
في ظل انعدام الدستور القومي الوطني، وفي ظل التسيب الإداري وفي ظل العمل للصالح الحزبي والجهوي الضيق ونحن نصطلي بأتون ومحاص التفتيت والذي تمثل الحرب فيه واجهات متعددة ، وفي خضم تدخلات خارجية تنخر فيه حتى النخاع وفي ظل منظومة عالمية ، واضحة الأطماع في السودان وبكمية العمالة بكل أشكالها والتي ترمي بثقلها في توجيه الخارج في تعامله مع السودان ، وفي استلاب ارادة وسيادة السودان وبيعه في سوق نخاسة التحالفات ، وفي خضم الممارسات الحزبية والفردية من شخصيات مضخمة ومفخخة صنعها العالم الأناني نفسه ، لتكون له يد في قرار السودان وعدم استقراره وتؤثر في أمنه ونمائه وفي وجوده من عدمه ، في ظل هذه الفوضى التي نشارك فيها ونرضاها علينا، والله لا أدري كيف يستمر السودان إلى الآن.
يجب علينا خلق وحدة مؤسسية لكل المؤسسات (وزارات وأحزاب وإدارة عليا وقوات أمنية وعاملين) لتعمل مكونات الوطن على نسق واحد وبترابط داخلي واتصال يمثل النسيج العام والكلي، والحراك الذاتي لأي حزب أو مؤسسة ، بحيث يمثل كل ذلك الإطار العام والشكل العام والناتج السياسي والانتاجي العام للوطن، وأن نحكم أمر الشتات في المفهوم والحق الوطني وأن ننزع من الحزبية الضيقة اتصالها بالخارج وأن تكون هنالك قوانين رادعة تلزم كل حزب وشخص بالحقوق العليا للوطن.
والحل الأفضل كما نراه لمعالجة الخلاف والصدام السياسي والتنفيذي داخل أي مؤسسة، بما يعطل الأداء العام للدولة ويوجه طاقاتها وضياع هيبتها وسيادتها وتنميتها، يتمثل في عمل دستور قومي لا يُسمح للتدخل الحزبي والأيديولوجي فيه، لتجيير إرادة السودان وحراكه السياسي ، لصالح أي حزاب مهما كان توجهه، أو أي مشروع مهما كانت آيديولوجيته ، بحيث يكون دستورا وطنيا خالصا وبعيدا عن التجاذبات والتجاوزات، وأن يكون دستورا متماسكا لا يترك ثغرات للعمل الحزبي والجهوي، ليؤثر في الأداء العام للوطن.
ولو كنت مسؤولا لقمت بحل جميع الأحزاب ، يمينها ويسارها ووسطها، طالما أنها غوت الآن وضاعت بوصلتها الداخلية بسبب التجاذبات السياسية والمفاهيمية، وقد تكلست فكريا بحيث لا تستطيع التفكير ولا تملك إرادة من الخروج من الموروث في الفهم والممارسات بحيث تستوعب وتستشعر ما يحدث من تغيير حقيقي في العالم والمنطقة وداخليا في السودان بل في بنية الأحزاب نفسها ولا تتعظ وهي ترى هذه المهددات للسودان ولها كأحزاب ، بل ولا تأبه للسقوط للهاوية التي يقع فيها السودان بسرعة البرق.
لو كنت مسؤولا لقمت بحل كل الأحزاب دون استثناء وعقد مؤتمر جامع ، نعيد فيه صياغة وتشكيل تلك الأحزاب بما يخدم الوطن وينزع الأنا والتصاف الحزبي والحروب المصنوعة بين الاحزاب لتكون هي العلة والعالة الحقيقة على الوطن و أن أعمل على تطويرها وتنمية كوادر قياداتها ليكون الوطن والوطنية هي القاسم المشترك الأكبر بينها، هماً وعملا وأداء.
وأن نصنع مباديء وطنية تكون المنافسة السياسية فيها لأجل الوطن ، والوطن فقط ، وأنزع فتيل الصدام بين التوجهات والمشاريع الوطنية، وبين مشاريع العمالة الخارجية والإرتماء في أحضان هذا العالم الذي لا يرحم، حتى نبني وطنا عزيزا وأبياً يملك إرادته.