العلاقات الروسية وخارطة الطريق السودانية

دكتور حسن عيسى الطالب
الفيتو الروسي اليوم (18 نوفمبر 2024م) أبطل مشروع قرار الدول الغربية الذي قدمته بريطانيا لمجلس الأمن، والرامي لشرعنة التدخل الإنساني في السودان، وحظر الجيش وكافة عملياته، بالتوقف القسري لجميع العمليات ضد الميليشيا وشرعنة النهب والاغتصاب وقتل المدنيين، مما يعني عمليا تقسيم السودان بين مناطق سيطرة الميليشيا وتلك التي يتواجد فيها الجيش. وهذا يعني انفصال دارفور فعلياً، وخلق كانتونات في الجزيرة وولاية الخرطوم وغيرها، وإصدار شهادة ملكية للميليشيا وشرعنتها بالقانون الدولي والفصل السابع.
نفس القرار طبق من قبل على عراق صدام حسين في التسعينيات، فأدى لإنفصال إقليم كردستان من الناحية العملية، ومثيله القرار ضد ليبيا القذافي عام 2011م فأفضى إلى تشكيل حكومتين في بنغازي وطرابلس لا تزالان تختصمان حتى اليوم.
الذي يحمد للإتحاد الروسي مصداقيته في الوقوف مع سيادة السودان بالعمل وليس بمجرد العبارات المنمقة، كما فعل مع سوريا من قبل. فأوقف مسلسل العبث الطاغي والمتطاول على سيادة السودان، وتسييره مغلولا ومعصوب العينين من قبل دول الاستعمار الجديد المعروفة، لإمضاء مخططاتها المتماهية مع أعدائه المعلنين.
هذا موقف مشرف من الإتحاد الروسي يستحق التقدير ورد التحية بأحسن منها، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
بيد أنه تبين الآن أن تطاول عمليات حسم هذا التمرد المدعوم بأجندة الخارج تعيق التقدم دبلوماسيا، وتكبل السياسة الخارجية. وظل هذا شأن السودان مع هذه الدول منذ الاستقلال، وعلى كافة الحكومات، الإنقلابية والعسكرية، بالتآمر المستمر، وتبادل الأدوار في كل مرحلة حسب مقتضياتها. وينشط التآمر الخارجي بنصب الحبائل في أجواء المعاناة المكفهرة التي تصنعها بيادقه من جيوش العملاء المتماهين مع المرتزقة حملة السلاح، ومن خانوا قسم الولاء للوطن فخانوه، ورفعوا السلاح المعد للعدى في صدور زملائهم رفقاء العقيدة الوطن.
ولذا فيتعين على الحكومة القائمة التعامل مع الوضع الراهن بالجدية والحسم المطلوبين. فأول مطلوب عملي هو تسريع عمليات تطهير البلاد من جيوب التمرد الآفل في كل مسارح العمليات، وبدءا بولاية الجزيرة، قلب السودان النازف، وتسريع عمليات تطهير بقايا التمرد في أطراف الخرطوم لإعلانها ولاية خالية من التمرد، والشروع في إنفاذ برامج إعادة البناء والإعمار.
ففي كل يوم تتأخر فيه القوات المسلحة المدعومة، أكثر من أي وقت مضى، بالمستنفرين والمقاومين، وكل شعب السودان، عن الحزم الموعود، فإن ذلك المدى الزمني يفتح فصولا جديدة من التآمر والتربص ونصب الحبائل. فقد أعلم بمثيل هذا التربص المولى تعالى رسوله، وهو في ساحة الجهاد مع المسلمين السابقين الأولين بقوله:-
“ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا” ثم أوصاهم بعدم التهاون والتردد في الحسم مهما كانت التضحيات:
“ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين” موصياً ومحرضاً لهم بالثبات على المبدأ وتحديد الوجهة والتوكل الحازم.
أما على مستوى العلاقات الخارجية الثنائية، فقد تبين الآن للجميع، وبوضوح ساطع، من يقف مع السودان، ومن يدبر له المكائد.
وبالتالي فيتعين أن تعتمد مقاصد وتوجهات السياسة الخارجية هذه البوصلة التي لا تكذب.
فيتعين إبرام اتفاقيات دفاع مشترك واتفاقيات اقتصادية وتجارية، واتفاقيات التبادل النقدي مع دول صديقة وموثوقة كالإتحاد الروسي والصين وكافة الدول الصديقة، التي أكدت بالقول والفعل احترمها لسيادة السودان ووحدة ترابه واستقلال قرار شعبه السياسي، بدلا من الخضوع المتقاعس لأجندة الخارج التركيعية، وتوعداته التثبيطية، التي لن تقود إلا لمزيد من التشظي والفرقة، وبذر الشقاق والاحتراب بين أبناء الوطن الواحد، والسعي لتموضع العملاء والوسطاء لإذكاء المزيد من الفتن واستطالة أمد الحرب.
بالأمس اجتمع المستشار الألماني أولاف شولتز مع الرئيس بوتين، وقد خلص المراقبون إلى أن الهدف من اللقاء المفاجئ، الذي أذهل العديد منهم، يصب في خدمة السياسة المعلنة للرئيس المنتخب دونالد ترمب، الذي قرر إنهاء الحرب في أوكرانيا، كما أن ألمانيا نفسها ظلت تعاني من التدهور الاقتصادي بسبب قطع إمدادات الغاز والنفط الروسي عنها منذ عام 2022م ، فأدى ذلك لإغلاق عدد من مصانع السيارات مثل شركة فلكسواجن، وتجميد استثمارات أجنبية لصناعة الموصلات الإلكترونية تقدر ب 30 مليار دولار، وتزايد نسب العطالة والتذمر واستقالة وزير المالية والاقتصاد وتصدع الائتلاف الحاكم، فضلا عن أن نسبة النمو الاقتصادي خلال العام الجاري تناقصت إلى 0.2% وعلما بأن الاقتصاد الألماني يؤثر على كل دول الإتحاد الأوربي وضَعفه يعاني معاناتها. وبالتالي فلم يعد لأوروبا من مناص سوى التوصل لحل لمشكلة أوكرانيا نزولا على مبدأ الرئيس ترمب.
وبالتالي فإن الرهان الأوربي للوقوف مع أوكرانيا ضد روسيا وهزيمتها بدون أمريكا أصبحت معالمه واضحة للجميع.
بالأمس أعلنت حكومة الانقلاب في القابون التي يترأسها الجنرال بريس انقويما نتيجة الاستفتاء العام على الدستور الجديد، والذي حصل على تأييد أكثر من 91% من المواطنين، وجاء ذلك بموافقة ورعاية فرنسا ماكرون للانقلاب العسكري الذي جرى في أغسطس 2023م ضد حكومة الرئيس المنتخب علي بونقو في ديسمبر 2022م. وفي السودان نحتاج لتجربة أفضل لأن مرور خمس سنوات دون حكومة منتخبة يضحي أمرا مقلقاً.
عموما على الرئيس البرهان العمل والتصرف كرئيس حكومة أمر واقع، ودولة ذات سيادة، فعليه الشروع في تشكيل حكومة المهام الانتقالية من الخبراء والتكنوقراط، وإعلان برنامج إعادة الإعمار، وإصدار خارطة طريق للانتخابات لاستعادة المشروعية المسنودة بسيادة الشعب وسلطة حكم القانون. فالعالم لا يحترم من يتقاعس وينتزع موقعه المستحق بين الدول، ولا يحتفي بالمترددين المرتكسين المنتظرين لإشارات الآخرين. فالمياه الراكدة يفسدها طول الركود فتفسد ما حولها. والله يخاطب الرسول القائد تعليما للمسلمين في مثل هذه المواقع: ” فإذا عزمت فتوكل على الله”..
تحليل د. حسن عيسى الطالب للعلاقات الروسية وخارطة الطريق السودانية يمثل رؤية شاملة لأوضاع السودان المعقدة حيث يتشابك المحلي مع الإقليمي والدولي في مشهد سياسي بالغ الدقة.
تبدأ القراءة بفيتو روسيا في مجلس الأمن الذي أسقط مشروع القرار البريطاني الرامي إلى شرعنة التدخل الدولي في السودان وهو تدخل يهدف تحت غطاء الإنسانية إلى تقسيم البلاد عملياََ بين مناطق سيطرة الميليشيات وتلك التي يسيطر عليها الجيش وهو أمر يعيد إلى الأذهان السيناريوهات التي قادت إلى انفصال إقليم كردستان في العراق وإلى الانقسام المستمر في ليبيا.
بهذا الموقف تقدم روسيا نفسها كحليف استراتيجي يحترم سيادة السودان مما يعكس امتدادًا لسياستها المتماسكة في دعم الدول التي تواجه التدخلات الخارجية كما فعلت في سوريا.
السياق المحلي يبرز الحاجة الملحّة لتحرك حاسم
داخلياََ: الأزمة السودانية ليست مجرد صراع بين جيش وميليشيا بل هي تعبير عن تداخل مصالح خارجية تستخدم أدوات محلية لتعزيز مخططات تقسيمية.
يتطلب الوضع الراهن من الحكومة اتخاذ خطوات عملية وسريعة لإنهاء التمرد المسلح في المناطق الاستراتيجية بدءًا من قلب البلاد في ولاية الجزيرة وحتى أطراف الخرطوم.
التأخير في الحسم يفتح الباب أمام مزيد من التدخلات الأجنبية ويُطيل أمد الأزمة الإنسانية والسياسية مما يُضعف قدرة السودان على استعادة استقراره.
في هذا الإطار يبرز التحليل أهمية إدراك السودان للتحولات الجيوسياسية الجارية عالمياََ. الأزمة الأوكرانية على سبيل المثال تُعيد ترتيب الأولويات الغربية حيث تواجه أوروبا تحديات اقتصادية خانقة بسبب العقوبات المفروضة على روسيا وهو ما يدفعها نحو التفاوض وتقليل الضغط الدولي على مناطق أخرى بما فيها السودان.
في هذا السياق يظهر التحالف مع روسيا والصين كخيار استراتيجي لا يمكن تجاهله خصوصاََ أن هاتين القوتين أثبتتا التزامهما العملي بدعم سيادة الدول في مواجهة الهيمنة الغربية.
التحليل يُظهر كذلك أهمية التقدم بخطوات سياسية تعيد للسودان شرعيته الداخلية والخارجية.
تأخر السودان في تشكيل حكومة انتقالية وإطلاق خارطة طريق للانتخابات يُقلل من فرصه في نيل اعتراف دولي قوي ويترك الساحة مفتوحة أمام مزيد من الضغوط والمناورات.
دعوة د. حسن عيسي طالب لتشكيل حكومة كفاءات تعتمد على التكنوقراط ليست مجرد اقتراح نظري بل ضرورة عملية لاستعادة الثقة الوطنية ووضع السودان على طريق الاستقرار. الشرعية السياسية المستندة إلى إرادة شعبية هي الدرع الأقوى في مواجهة التدخلات الخارجية وأداة أساسية لتوحيد الصف الداخلي.
من ناحية أخرى يُبرز المقال الحاجة لتعزيز الإرادة الوطنية وإعادة بناء الثقة بين مؤسسات الدولة والمجتمع.
الأطراف التي تُعطل الحلول الداخلية سواء كانت ميليشيات مسلحة أو دولاََ تسعى لتحقيق أجنداتها عبر وكلاء محليين تعمل على استدامة حالة الانقسام والضعف. الرد على هذه التحديات يتطلب رؤية موحدة تستند إلى مصالح السودان العليا بعيداََ عن المصالح الضيقة أو الإملاءات الخارجية.
في الختام يضع التحليل أمام السودان خريطة طريق واضحة المعالم. المطلوب ليس فقط الحسم العسكري والسياسي داخلياََ بل إعادة صياغة العلاقات الدولية على أساس المصالح المشتركة مع الدول التي تحترم سيادة السودان.
روسيا والصين تقدمان نموذجاََ عملياََ يمكن البناء عليه في حين أن الدول الغربية رغم قوتها لم تُظهر اهتماماََ حقيقياََ بدعم السودان إلا بما يخدم مصالحها. في هذا المشهد تبرز الحاجة إلى قيادة سودانية قادرة على اتخاذ قرارات جريئة تستند إلى رؤية وطنية واضحة ومتماسكة تدرك تعقيدات اللحظة الراهنة وتعمل على تحويل التحديات إلى فرص لبناء دولة مستقلة وقوية.