إستعراض مذكرات القائد والمؤسس الرئيس للنهضة السنغافورية السيد لي كوان Lee Kuan Yew

السفير محمد المرتضى مبارك إسماعيل
ألف السيد لي كوان يو القائد والمؤسس الرئيس لنهضة دولة سنغافورة مذكراته في مجلدين:
المجلد الأول بعنوان: قصة سنغافورة، مذكرات لي كوان يو، ويقع في ستمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير. The Singapore Story, Memoirs of Lee Kuan Yew
المجلد الثاني بعنوان: من العالم الثالث إلى الأول، قصة سنغافورة: 1965 إلى 2000 ويقع في سبعمائة وخمسين صفحة، From Third World To First, The Singapore Story
تعتبر مسيرة الكفاح والنجاح غير المعهودة للسيد لي كوان يو القائد والمؤسس الرئيس لدولة سنغافورة من أعظم قصص النجاح في كل العصور. فقد صار السيد لي كوان رئيساً منتخباً للوزراء في عمر الخامسة والثلاثين في العام 1959، عن حزب الحراك الشعبي People Action Party، المعروف إختصاراً ب PAP، وذلك في ظل منافسة عنيفة وشرسة من الحزب الشيوعي السنغافوري المدعوم من الحزب الشيوعي الماليزي والحزب الشيوعي الأندونيسي ومن الصين التي تمثل سيطرة الحزب الشيوعي على الحكم بها مصدر إلهام ودعم للإحزاب الشيوعية بكل المنطقة إضافة إلى المقاومة الي ظل يجدها من الحزب الملاوي السنغافوري المدعوم من حزب الملايو بماليزيا.
وعلى الرغم من إنتماء السيد لي كوان إثنياً إلى الأغلبية الصينية بسنغافورة إلا أن نشأته وتعليمه جعلته سنغافورياً يجيد الإنجليزية وشيئا من لغة الملايو ولا يتحدث الصينية وليس له إرتباط ثقافي بالصين. كما أن قناعاته الراسخة تمحورت حول رفضه للشيوعية بإعتبارها غير قابلة للنجاح في بيئة بلاده وظل مؤمناً وملتزماً بالنهج الإشتراكي الذي يحقق معايير عالية من العدالة الإجتماعية في ظل إقتصاد السوق والمنافسة الحرة. وظلت تلك قناعاته رغم تعاونه وتحالفه في سني حكمه الأولى في قيادة الحركة النقابية والإنتخابات النيابية مع الشيوعيين ولكن سرعان ما تفرقت بهم السبل إثر مساعيهم للغدر به.
إمتلاك السيد لي كوان لرؤية وأضحة وترتيبه الجيد للأولويات الوطنية هي ما مكنته من بناء حزب وطني قومي وجد دعماً قوياً من جميع الإثنيات المكونة لسنغافورة بدءاً من إثنيته الصينية والتي ناصب الكثيرون منهم شخصه وحزبه العداء بسبب رفضه للشيوعية. وتمثلت رؤية السيد لي في إقناع الأغلبية الصينية في سنغافوة التي تقدر بحوالي 75% من السكان أنه ليس ضد الثقافة واللغة الصينية وحقوقهم المشروعة وقد أدخل أبنائه الثلاثة في مدارس تدرس باللغة الصينية خلافاً لنشأته هو وزوجته شو وقد درسا في أنظمة تعليم تعتمد الإنجليزية كلغة تدريس قبل إلتحاقهما بمعهد رافل المسمي على البريطاني مؤسس سنغافورة توماس إستانفورد رافل في العام 1819. وهو مؤسس المعهد الذي سمي عليه ووأضع القوانين والنظم الرئيسة لنشأة سنغافورة كميناء حر لجذب السفن الراغبة في مبادلة البضائع.
كما عمل مع مجموعة من زملائه السنغافوريين، الذي زامل معظمهم أثناء دراسته وزوجته في جامعة كمبريدج في بريطانيا، على بناء حزبهم المعروف بحزب الحراك الجماهيري على أسس وطنية تكفل قيم العدالة والمساواة والإنصاف للقوميات الأخرى المكونة لسنغافورة من ملايو وهنود وغيرهم من أقليات. وفي سبيل ذلك تعلم اللغة الصينية المعروف بالماندرين وطور مستواه في لغة الملايو كما تعلم اللهجة المستخدمة من اللغة الصينية في سنغافورة والتي تعرف بالهوكيا. وظل في مخاطباته الجماهيرية وتطوافه على مختلف الدوائر الإنتخابية المكونة لسنغافورة يخاطب الجماهير بالإنجليزية والملاوية والصينية الماندرين والصينية المحلية المعروفة بالهوكيا وذلك لتحقيق روح الإنتماء لحزبه وبرنامجه لدى الجميع.
وحفلت سنوات حكمه الأولى كرئيس للوزراء بالعديد من التحديات خاصة على الصعيد الأمني والإقتصادي في ظل فوز حزبه بأغلبيات برلمانية ضعيفة بفوارق ضئيلة عن المعارضة. ولكنه إستطاع بالمثابرة والمحافظة على مبادئه الوطنية المنصفة لجميع الإثنيات والهادفة إلى تحقيق إنسجام إجتماعي بين جميع المكونات الثقافية والإثنية في البلاد، أن يتجاوز تلك التحديات الواحدة تلو الأخرى وصولاً إلى تحقيق أغلبيات مريحة في الدورات الأنتىخابية اللاحقة، بل الفوز بكل الدوائر الإنتخابية في بعض الدورات بعد تذوق الشعب ثمرات النهضة الإقتصادية والتطور الكبير للبلاد في جميع المجالات، بما جعلها الدولة الوحيدة التي يصدق عليها وصف الإنتقال من العالم الثالث إلى الأول خلال الثلاثين عاماً من سني حكمه، قبل تخليه عن رئاسة الوزارة طوعاً في العام 1990، وتعيينه في منصب وزير رفيع Senior Minster لبعض السنين.
وفي إطار ذات مبدأ تخليه عن الحكم عمل ومنذ إنصرام العقدين الأولين من حكمه على تجديد قيادة الحزب والدولة، وهي مسألة وجدت مقاومة من العديد من زملائه الوزراء الذين زاملوه في الحكم كوزراء ووزراء دولة ووكلاء وزارات لأكثر من عقدين من الزمان. ولكنه أصر على التجديد المتدرج من خلال إستقطاب العديد من الشباب خاصة حملة الشهادات العليا وخريجي بلاده من كبرى الجامعات الغربية، وذلك من خلال تشجيعهم على الإنخراط في العمل السياسي والمنافسة الإنتخابية وصار العديد منهم أعضاء في البرلمان ووزراء دولة ولأحقاً وزراء مقتدرون ورؤساء لكبرى مؤسسات الدولة وشركاتها وشركات القطاع الخاص.
من أمثلة الجيل الجديد إبنه loong الذي فاز بجائزة الدولة في الرياضيات وتخرج من جامعة كامبريدج بمرتبة الشرف الأولى في الرياضيات في العام 1974 وحصل على دبلوم عالي في الكمبيوتر بإمتياز تعادل ماجستير الدرجة الأولى في الكمبيوتر وحصل على ماجستير الإدارة العامة من جامعة هارفارد العام 1980، وقد عمل في الجيش خلال الفترة من 1971 إلى العام 1984 ثم إستقال ودخل المعترك السياسي فأصبح نائباً برلمانياً فوزيراً ونائباً لرئيس الوزراء وسط تكهنات أن لي كوان كان يعده ليكون خليفة له وأن رئيس الوزراء الذي خلفه Goh Chok Tong كانت مهمته تهيئة الكرسي لإبنه Warming up the seat ، ولكن إستمرار خليفته في منصبه لأكثر من دورة إنتخابية قضى على تلك التكهنات. ولعل سنة التجديد المدروس التي نجح فيها لي كوان وشملته هو نفسه رغم أنه كان صاحب الدور الأكبر في تلك النجاحات الكبرى لسنغافورة تقف كمفارقة هائلة إزاء فشل غالب نخب العالم الثالث في تجديد الإجيال وإحسان تعاقبها بما يقوى من ركائز ومعدلات النهضة والنمو.
وخلافاً لما يعتقد الكثيرون فإن سنغافورة لم تنفصل عن ماليزيا بإرادتها وإنما طلب منها مغادرة الإتحاد مع ماليزيا لتضطر إلى إعلان نفسها دولة مستقلة في خطاب تاريخي لرئيس الوزراء لي كوان إلى شعبه لم يستطع فيه تمالك مشاعره وظل لحوالي عشرين دقيقة في بكاء مستمر. ورغم ذلك إستطاع وشعبه إستجماع قواهم والشروع في مجابهة مختلف التحديات وكانت أولاها التحدي الدفاعي والأمني إذ أن سنغافورة لم يكن لديها جيش وكانت تعتمد على القواعد البريطانية في الدفاع عن أراضيها والتي أيضاً توفر نسبة مقدرة من فرص العمل لمواطنيها. ومن خلال التعاون مع العديد من الدول إستطاعت بناء جيش قوي في جميع التخصصات وتدريب غالب فئات الشعب كجيش إحتياط.
على الصعيد الإقتصادي إستطاع تحويل سنغافورة لمركز مالي عالمي مستفيداً من الفجوة الزمنية بين عمل بورصات زيورخ فرانكورت ولندن التي تفتح تباعاً وتسلم البورصة العالمية لنيويورك ولوس أنجلوس والتي بإغلاقها ثمة فترة تتوقف فيها البورصة العالمية وهي الفترة التي وضعت فيها بورصة سنغافورة لتكمل عمل البورصة العالمية دون إنقطاع على مدار اليوم. وذكر لي كوان في مذكراته أن سنغافورة لم تكن مثل هونغ كونغ تستطع الإعتماد على مدينة لندن بسمعتها المالية الراسخة تاريخياً، ولم يكن من المتاح لها الإعتماد على بنك إنجلترا برمزيته الإحترافية وموثوقيته، وأن في العام 1968 لم تكن سنغافورة سوى دولة من العالم الثالث وأن البنوك الأجنبية بحاجة إلى الإطمئنان إلى إستقرار الأحوال الإجتماعية، بيئة العمل والحياة الجيدة، البنية الأساسية الممتازة، وتوفر العمالة والمهنيين المهرة. كما أنهم بحاجة إلى الإقتناع بأن الهيئة المسؤولة عن إصدار العملة المحلية والهيئة النقدية السنغافورية تتمتعان بالكفاءة اللازمة للإشراف الفعال على الصناعة البنكية.
خلال الفترة من 1968 إلى 1985 قدمت سنغافورة العديد من التسهيلات والحوافز لجذب المؤسسات المالية الدولية، وإستطاعت بدءاً من العام 1990 أن تصبح واحدة من أكبر المراكز المالية في العالم بتصنيف سوقها المالية في المرتبة الرابعة حجماً في العالم بعد لندن، نيويورك وبفارق ضئيل خلف طوكيو. ويضيف لي أن بسبب نجاح سنغافورة كمركز مالي سعت بعض دول المنطقة لمنافستها في المجال بتقديم حوافز وتسهيلات أكبر مما كانت تقدمه سنغافورة غير أن نجاح سنغافورة كمركز مالي كان أساسه سيادة حكم القانون، القضاء المستقل، وحكومة مستقرة ذات كفاءة ونزاهة تسعى لتطبيق سياسات مالية عامة فعالة مع تحقيق فائض موازنة سنوي. وفي العام 1997 بإندلاع الازمة المالية الآسيوية بإنخفاض قيمة العملة التايلندية وإنهيار البورصات والأسواق المالية في المنطقة، ظلت البنوك السنغافورية متماسكة.
كذلك إستطاعت سنغافورة خلال سني حكمه أن تصبح مركزاً عالمياً لخدمات وصيانة السفن وأن تطور خطوطها الجوية إلى إحدى أفضل وأفخم خطوط الطيران العالمية وأن تصبح مركزاً عالمياً للعديد من الشركات المتعددة الجنسيات في العديد من مجالات التقنيات المتقدمة بفضل سيادة حكم القانون والإستقرار الإجتماعي والبنيات الأساسية المتطورة وتوفر العمال المهرة الذي أساسه ما وفره من تعليم جيد ومجاني في جميع مراحله إنتهاءاً بجامعة سنغافورة الوطنية التي أصبحت من كبرى الجامعات العالمية إضافة إلى جامعة نانيانغ للتكنولوجيا، جامعة سنغافورة للإدارة، وجامعة سنغافورة للتكنولوجيا والتصميم.
من أهم ركائز نهضة سنغافورة ما أسماه السيد لي مبدأ المحافظة على الحكومة نظيفة، وأنهم في سنغافورة شعروا بالإشمئزاز من جشع وفساد العديد من الزعماء الآسيويين الذين ناضلوا لأجل حرية شعوبهم لكنهم تحولوا إلى ناهبي ثروات بلادهم. لأجل ذلك طورت حكومة لي كوان فعالية مكتب تحقيقات الفساد الذي أنشئه نظام الإحتلال البريطاني Corrupt Practices Investigation Bureau وذلك بالتركيز على كبار المفسدين وتوسيع نطاق ما يعتبر رشوة والتحقيق مع الموظفين الذين يثبت أنهم يعيشون في رفاه وصرف أكثر مما تحققه دخولهم، كما تمت زيادة مبالغ الغرامات المالية على المخالفات لمستويات رادعة. وقد أفضت تلك الإجراءات والقوانين الفعالة إلى محاكمة العديد من المسؤولين في مختلف مستويات الحكم وعلى رأسهم بعض الوزراء في فترات زمنية مختلفة. ومما ساعد على نظافة الجهاز الحكومي في سنغافورة إتباعها نهج منح الموظفين في مختلف مستويات الخدمة العامة مرتبات مجزية وبمستويات تنافس المرتبات في القطاع الخاص مما ساهم في إضعاف ذرائع الفساد.
كذلك من الثورات الكبرى التي أنفذتها حكومات السيد لي حملة تحويل سنغافورة إلى دولة خضراء لتحسين بيئة الحياة والصحة العامة والجذب السياحي والتمكن من حصاد أكبر معدل من مياه الأمطار التي يبلغ متوسطها السنوي 95 بوصة سنوي لزيادة نسبة مياه الشرب المنتجة محلياً مقابل المستوردة. ولأجل ذلك أرسل فرقاً من مختصي البستنة إلى العديد من الدول المدارية في آسيا وأفريقا والكاريبي وأحضروا حوالي الثمانية ألف نوع من الأشجار تم إنتخاب حوالي الفي نوع صالحة للإستزراع في سنغافورة. وإستطاع بها تحويل سنغافورة إلى بلد أخضر وتنظيف نهر سنغافورة وحوضه بإلغاء مزارع الخنازير وتحويل مصائد الأسماك وترحيل العديد من الحرف المحلية والمطاعم والتي كانت تلوث النهر وحوضه بفضلات صناعاتها إلى أماكن بديلة أعدت بجميع البنيات الأساسية مما وفر بيئة نظيفة وجاذبة للسياحة. وصار نهر سنغافورة وحوضه وشواطئه التي إستوردت لها أجود الرمال مرتعاً للأسماك ومنتجعا للسياحة والتنزه. وصارت المطاعم الشعبية والحرف المحلية والتقليدية أماكن جذب سياحي في بيئاتها الجديدة. إحتاج السيد لي الإستعانة ببعض الوسطاء مع ملاك تلك المحال لتقليل الإستياء الذي خلفه ترحيلهم وإنعكاسه على نسب تأييد حزبه في الإنتخابات.
يعتقد السيد لي كوان أن بعض الدول التي تتبع أنظمة الرعاية الإجتماعية تشجع كثير من فئات الشعب على البطالة وتضعف همم العمل والإنتاج والتنافس لترقية الأوضاع لذا دعا إلى ما أسماه مجتمع عادل ولكن ليس مجتمع رفاه إجتماعي Fair but not welfare society. ويقول أنه يؤمن بالإشتراكية وبالحقوق العادلة للجميع وأن الحوافز والعوائد الشخصية هامة للإنتاج. ويرى أن مجتمع تنافسي كمجتمع هونكوك الذي يسود فيه مبدأ أخذ الرابح لكل شئ Winners take all ، غير مقبول في سنغافورة بنظام ديمقراطيتها النيابية. وأنه لا بد من إعادة توزيع الدخل من خلال خدمات تزيد قوة دخول المواطنين مثل التعليم، الإسكان والعلاج. وأضاف ان شاغله الأكبر كان هو منح أي مواطن سكن وأن يوجد مجتمع مالك لسكنه لأنه راى الحالة السيئة التي عليها المنازل المستأجرة مقارنة بالحالة الجيدة التي عليها المنازل التي يمتلكها قاطنوها.
وتمكن السيد لي من خلال الإتفاق مع النقابة العامة للعاملين في الدولة من زيادة نسبة خصم المرتب لصالح صندوق التوفير المركزي للمعاش The central Provident Fund تدريجياً من 5% إلى 25%، وإستطاع من خلال جزء من ذلك الخصم توفير الدفعة الأولى لمنزل كل مستخدم في الخدمة العامة وتقسيط باقي المبلغ على خمسة عشر إلى عشرين عاماً. وتمكن بذلك المشروع ومشروعات مشابهة من توفير إسكان لائق في أبراج سكنية لجميع سكان سنغافورة. وأيضاً بتخصيص خصم ضئيل حوالي 2% من ذات الصندوق إستطاع توفير خدمات علاج متكاملة لكل موظف كبديل أفضل لنظام التأمين الصحي الذي يشجع في العديد من الحالات على تبديد المال العام.
وحرصت إستراتيجية إدارات السيد لي في تخطيطها للإسكان في سنغافورة على هندسة إجتماعية تراعي سكن مختلط لمختلف الفئات الإثنية لسكان سنغافورة لتحقيق إنسجام وسلام إجتماعي في البلاد. ويحكي السيد لي أن من الطرائف التي حدثت من خلال تغيير بيئة العديد من الفئات الشعبية التي كانت تعيش في منازل وعشش فقيرة وعشوائية في بيئة تجاور فيها ما تمتلكه من دجاج وبط وأبقار وخنازير، أن بعضهم إنتقل ببطه ودجاجه إلى الشقق السكنية في الأبراج وبعضهم ظل يزرع في البلكونات والعديد منهم ما زال ناقماً على سياسته ويفضل نمط حياته القديم ويصوت ضده في الإنتخابات جراء ذلك.
وتمكنت الحكومة من إستثمار أموال معاشات العاملين في البورصة وفي العديد من الصناديق العالمية ذات المخاطر المنخفضة وفي ضروب من الخدمات في داخل البلاد كخدمات النقل والمواصلات الأمر الذي أدى إلى زيادة عوائد العاملين من إستثمارات معاشاتهم والخدمات والسلع المدعومة جراء ذلك. وقد تمكنت حكومات السيد لي كوان وأسلافه بتلك السياسات من كسب ثقة وتعاون نقابات العاملين في الخدمة العامة والمؤسسات الأخرى والقضاء على نفوذ الحزب الشيوعي السنغافوري الذي كان يستخدم تلك النقابات كوسيلة لنشر فكره ومبادئه وطرحه كبديل أوحد لتحقيق دولة العدالة والرفاه الإجتماعي مؤيداً بنفوذ الأحزاب الشيوعية في ماليزيا وأندونيسيا والحزب الشيوعي الصيني الحاكم كداعم وبؤرة للإشعاع الفكرى والنجاحات العملية.
إن صعود سنغافورة من متوسط دخل فرد يبلغ 400 دولار في العام في عام 1959 إلى دخل فرد وصل إلى 12 ألف دولار في العام في عام 1990 وهو العام الذي تخلى فيه لي كوان يو عن رئاسة الوزارة. وتطور دخل الفرد في عهد خلفه Goh Chok Tong ألى 22 ألف دولار في العام في عام 2000. ويعلق لي على تلك النجاحات بأنهم قد تركوا خلفهم مشكلاتهم العالم الثالث ذات الصلة بالفقر، ولكنهم بحاجة إلى عقد آخر حتى تستطيع الفنون، الثقافة، والمعايير الإجتماعية لديهم مضاهاة البنية التحتية المادية للعالم الأول التي نجحوا في إرساء مثيلها.
وعلى الصعيد السياسي ظل السيد لي كوان خلال سنوات حكمه الإحدى والثلاثين وبعدها حتى وفاته عن في العام 2015 عن 92 عاماً نشيطاً وعلى صلة قوية وحوار وتطوير مصالح بجميع من تعاقبوا على الحكم في بريطانيا ودول منطقته خاصة ماليزيا، أندونيسيا، اليابان، كوريا، تايلند، إستراليا، نيوزيلنده، الصين ومقاطعات هون كونغ وتايوان، وروسيا والدول الغربية الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا والعديد من الدول الأفريقية التي زار العديد منها في مناسبات متعددة وتنباً بمآلات الأمور فيها وفي العديد من الدول الآسيوية بناءاً على ملاحظات دقيقة تبدأ بمقارنات منازل الضيافة التي يستقبل فيها في زيارته الأولى والثانية ومحيطها والظاهر في الأوضاع في أوساط البلاد، فضلاً عن المؤشرات الإقتصادية الأخرى وتركيز الكثير من القادة على المهارات الخطابية دون جوهر الموضوعات المفضية إلى مصالح حقيقية في تقدم ونهضة الشعوب.
وإستطاع لي كوان بحكمته وتركيزه على تطوير مصالح حقيقية مع العديد من الدول تحويل العلاقات مع العديد من دول الإقليم من خانة العداء إلى الصداقة والشراكة في العديد من المصالح خاصة بعد النجاحات الكبيرة التي حققها نموذجه في التنمية والرفاه والعدالة الإجتماعية والسلم المجتمي في مجتمع متعدد الثقافات والإثنيات المرتبطة بوشائج عديدة مع مثيلاتها في دول كبيرة وعلى مقربة منه ولن تعدم ذرائع إستهدافه لولا حكمته في التعامل معها وجهوده التي أغنت تلك الإثنيات عن الإستنصار بأبناء عمومتها في الجوار بل صارت أكثر فخراً بأنتمائها لنموذج النجاح السنغافوري الأكثر ريادة في المنطقة والعالم.