رأي

التهميش بين الحقيقة والوهم

رمضان أحمد

في عام 2005 نظم معهد فض النزاعات و مقره مدينة ديربان – جنوب أفريقيا ورشة تدريبية لعدد من منظمات المجتمع المدني من مختلف أنحاء السودان في إطار الاستعدادات لإنزال اتفاقية السلام الشامل على أرض الواقع. الورشة نظمت في مدينة بريتوريا وكنت ضمن طاقم الترجمة الفورية. كان من بين وفد الجنوب شاب في منتصف الثلاثينات يحمل حقداً دفيناً لكل ما هو عربي أو شمالي أو إسلامي. ما أن يأخذ فرصة للمداخلة حتى يوزع الشتائم لكل من يراه سبباً في بؤس أهل الجنوب، لدرجة أن المدربين كانوا يتضايقون من مداخلاته، وكان يستخدم العربية والإنجليزية في وقت واحد، مما اضطرني لأن أخرج من مقصورة الترجمة لأقاطعه حتى يلتزم بلغة واحدة لأتمكن من الترجمة.

هذا الشاب الجنوبي حدثت له واقعة عملية غيرت قناعاته بمائة وثمانين درجة. كان ضمن البرنامج المصاحب زيارة متحف التفرقة العنصرية. وبالفعل دخلنا المتحف برفقة المرشد الذي كان يحكي المآسي التي تعرض لها السود وبلغة حزينة إذ تجعل الزائر يعيش تلك اللحظات بكل كيانه. زرنا الزنازين واطلعنا على كل أشكال التعذيب الذي كان يتعرض له السياسيون وعامة الناس وكل ما يتعلق بسلوك النظام العنصري.
لما خرجنا وركبنا الحافلة ظل هذا الشاب صامتاً لبعض الوقت ثم نطق فجأة وقال: “والله السود ديل إما إنهم هُبُل أو مثاليين. تاري الجلابة ديل ما عملوا لينا أي حاجة شغلنا دلع بس”. ومنذ ذلك الحين استمر البرنامج ولم ينطق هذا الشاب بكلمة واحدة ضد العرب أو الجلابة أو الإسلام، بل أصبح يتكلم بلغة إيجابية وذكر أنه كان له صديق من الشمالية يرتدي معه نفس الملابس لقوة الصداقة بينهما، وكانت أسرة صديقه تعامله كواحد من أفراد الأسرة.

صُغت هذا النموذج الذي كنت شخصياً شاهداً عليه لأقول بأن دعاوى التهميش التي أصبحت ظاهرة تهدد مجتمعنا السوداني تُستخدم في كثير من الأحيان لابتزاز المجتمع ككل. هذا لا يعني أنني أنفي التهميش كظاهرة مجتمعية تشمل كل الريف السوداني تقريباً، ولكن لابد من تشخيص أسباب التهميش بعيداً عن الغضب وتوزيع التهم حتى نفكر معاً في كيفية إزالة آثار التهميش وتغيير طريقة التفكير.

أولاً: الطائفية السياسية التي ورثت البلاد من الاستعمار هي التي أسست لفكرة التهميش عندما جعلوا من أنفسهم أسياداً ومن بقية الشعب أتباعاً، باستثناء الطبقة السياسية التي حولت فكرة السيد والأتباع إلى ثقافة سياسية. وبالتالي انتفت فكرة الشعب والدولة منذ ذلك الحين، وأصبحت الأحزاب السياسية تدور حول “السيد” الذي هو رئيس الحزب. وأصبحت سياسات الدولة تصمم على مقاس الخرطوم دون أدنى مراعاة لظروف الولايات البعيدة.

ثانياً: هناك ظروف موضوعية جعلت مناطق شمال السودان سابقة في التعليم بحكم الموقع الجغرافي، بينما مناطق غرب السودان بالذات لم يكن التعليم فيها شائعاً باستثناء أبناء النخب السياسية التي كانت قريبة من الأسياد. وبالتالي كان الخريج الجامعي عملة نادرة حتى نهاية الثمانينيات. هذا فضلاً عن أن الوظيفة الحكومية هي المصدر الرئيسي للمعيشة بالنسبة لسكان شمال السودان نظراً لضيق مساحة الأرض الزراعية. والمصدر الثاني هو الهجرة ثم التجارة.

ثالثاً: التهميش يشمل كل الريف السوداني، بما فيه أقصى الشمال، وليس حصرياً على غرب السودان والنيل الأزرق والشرق. وهذا يعني بالضرورة أنه عندما نفكر في الحل يجب أن تكون مقاربتنا شاملة.

رابعاً: غياب السياسة السكانية جعلت النخبة الحاكمة في المركز تتقمص عقلية خرطومية ضحلة تجعل السودان كله في الخرطوم، مما حرم الولايات الأخرى من التنمية وهذا هو أساس التهميش.

استناداً إلى هذه النقاط الأربع يجب أن ندرك أن وجود مجموعة عرقية أو مناطقية يظهر فيها مظاهر الثراء لا يعني بالضرورة أن ذلك كان نتيجة اضطهاد المجموعات العرقية الأقل حظاً، وإنما يعني ضمن ما يعني أن هذه المجموعة وجدت فرصة لم تكن متاحة لغيرها دون أن يكون ذلك عملاً متعمداً. في شرق أفريقيا مثلاً نجد المواطنين من ذوي الأصول العربية في وضع معيشي أفضل من المجموعات الأفريقية، وفي جنوب أفريقيا نجد ذوي الأصول الأوروبية والهندية في وضع أفضل بكثير من الأغلبية السوداء، بل تعتبر جنوب أفريقيا هي الثانية بعد البرازيل من حيث الفروقات المجتمعية. ونفس الشيء ينطبق على غرب أفريقيا حيث نجد أن اللبنانيين يسيطرون على الاقتصاد.

إن علاج هذا الخلل، الذي يعرف في السودان بالتهميش، ليس بالثورة والغضب وإنما بالتفكير الاستراتيجي الجماعي ومن خلال التعليم والتأهيل.
إن نتيجة الثورة والغضب قد تكون وخيمة في كثير من الأحيان وقد تؤدي إلى مزيد من “الظلم” بيد “المظلوم”، كما نرى حالياً من تدمير البنية التحتية وقتل الحياة في كثير من المناطق التي تعاني أصلاً من “التهميش”.

ما حصل للشاب من جنوب السودان الذي ورد في صدر هذا المقال عبارة عن صدمة أخرجته تماماً من منطقة الوهم إلى منطقة الحقيقة. وبنفس القدر يجب أن تكون صدمة الحرب فرصة للسودانيين ليغيروا طريقة تفكيرهم من أجل إزالة الوهم وترسيخ الحقيقة. والحقيقة هي أن الشعب السوداني كله تضرر من الحرب. وبالتالي فإن صدمة الحرب يجب أن تجعلنا نتصرف بوعي وعقلانية لمعالجة الملفات الوطنية بأعلى مستوى ممكن من الوطنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى