رأي

الدبلوماسية السرية وأمن الدولة القومي: المضنون به على غير أهله (1-2)

دكتور أحمد عبد الباقي

 

اُستعير عنوان المقال “المضنون به على غير أهله” (في شقه الثاني) من كتاب نُسب إلى الإمام أبي حامد الغزالي الذي يحمل نفس العنوان وهو ” كتاب خاصّ بفئة مُعيّنة، هُم نُخبة القُرّاء والمُتعلّمين، وقد اختلف المتقّدمون في نسبة هذا الكتاب إليه، وربّما جاء الاختلاف في ذلك لما ورد في مجموعة “رسائل الإمام الغزالي”، التي جاء فيها: “أعلم أن لكلّ صناعة أهلاً يعرف قدرُها، ومَن أهدى نفائس صناعة إلى غير أربابها فقد ظلمها، وهذا علق نفيس مضنون به على غير أهله، فمن صانه عمّن لا يعرف قدره فقد قضى حقّه”. والمعني المقصود أن هذا الكتاب مخصص لفئة معينة – وليس كل الفئات- لها بعض ميزات الفهم للاطلاع علي الكتاب.

والضنين في اللغة (كما جاء في معاجم اللغة) هو الشديدُ البخل، أَو البخيلُ بالشيءِ النفيس، أو الحريص عليه، وضنَّ بالمكان: تمسَّك به، وحرص عليه، لم يبرحه، ومنه ضَنَّ بِمَالِهِ: بَخِلَ بِهِ ومثله ضَنَّ بِعِلْمِهِ وَبِوَقْتِهِ ونقيضه: لم يضِنّ بشيء من أجل التعلُّم: لم يدّخر وسعًا، وجاء في العامية السودانية أن الضنين تعني القليل أو الشحيح، ومنهم قولهم فلان ضنين أي بخيل، وجاء في رائعة الشاعر صديق مدثر التي تغني بها الكابلي: يا ضنين بالوعد أي بخيل به، ومن أبياتها:

 

يا ضنين بالوعد أهديتك حبي

من فؤاد يبعث الحب نديا

إن يكن حسنك مجهول المدى

فخيال الشعر يرتاد الثريا

 

المقصود من العنوان أن هنالك نوعا من الدبلوماسية السرية التي لا ينبغي أن يطلع عليها غير الذين هم من أهلها ومعنيين بها من رجالات الدولة أو غيرهم مما يشير إلى أهمية بقائها سرا لأن كشفها ربما أكثر ضررا بالأمن القومي من نفعها، فما هي الدبلوماسية السرية وأهميتها في العلاقات الدولية والأمن القومي؟

الدبلوماسية diplomacy/diplomatic -كما ورد في الموسوعة العربية- هي كلمة مشتقة عن اليونانية (دبلوم diploma (وفعلها دبلون diplon ومعناها الوثيقة التي تُطْوَى على نفسها التي كانت تصدر عن الشخص صاحب السلطان في البلاد، وتخول حاملها امتيازات خاصة. وقد دخلت هذه الكلمة المعجم الدولي منذ أواسط القرن السابع عشر، حين حلت محل كلمة المفاوضة، وتطور مدلول الدبلوماسية مع الزمن وأصبح يشير إلى معان شتى يمكن أن يتضمنها التعريف العام الآتي: “الدبلوماسية هي فن وعلم إدارة العلاقات الدولية”، والدبلوماسية على أنواع، فمن حيث أطراف العلاقة الدولية: هناك الدبلوماسية الثنائية أي الدبلوماسية بين دولتين، وهناك الدبلوماسية الجماعية أو المتعددة الأطراف، أي الدبلوماسية بين مجموعة من الدول عن طريق المؤتمرات أو المنظمات الدولية، يسمي بعضهم هذا النوع الأخير بالدبلوماسية البرلمانية parliamentary diplomacy. وقد شاع هذا النوع الثاني، بتواتر وتصاعد، منذ عصبة الأمم، وحتى اليوم، ومن حيث الوسائل المستخدمة في إدارة العلاقات الدولية: يمكن القول بوجود دبلوماسية سِلم تقوم على أساس المفاوضة بين الدول المعنية، وهذا هو الأصل، ودبلوماسية عنف أو ما سمي بدبلوماسية السفن الحربية Gun Boat Diplomacy وتتجلى في تحقيق الدولة لأغراضها عن طريق اتباع وسائل الزجر والعنف بما في ذلك الحرب التي يعدها بعضهم استمراراً للنشاط الدبلوماسي للدولة في ميدان آخر غير ميدان المفاوضات، ومن حيث الشكل الذي تأخذه إدارة العلاقات الدولية: هناك الدبلوماسية العلنية، وهي التي تتضح نتائجها فور انتهائها حتى لو جرت المفاوضات على وجه غير علني، وصنو الدبلوماسية العلنية هو الدبلوماسية السرية التي تجري بين الكواليس، وتكتم نتائجها كلاً أو بعضاً عن الغير أو حتى عن رعايا الدول المتفاوضة، فما هي الدبلوماسية السرية؟

 

الدبلوماسية السرية

 

تمثل الدبلوماسية بصورة عامة إحدى صور فن التفاوض في العلاقات الدولية، وعادة ما يكون التفاوض بين ذوي المصالح المتعارضة، سواء كانوا أفراداً، منظمات، أو دول، أو قوى أو نظم، لا سيما يُعد التفاوض مفتاح النجاح في إدارة العلاقات على مختلف أشكالها، لأنه أصبح يحدد مصير المجتمعات والدول.

ولما كان من الصعب أن تخلو أي عملية تفاوض بين الفواعل السياسية في العلاقات الدولية من دواعي النزاع والصراع، بسبب تتداخل فيها وتتفاعل عدة عناصر أبرزها (عوامل مجتمعية) تنعكس على الأفراد والرأي العام عندما لا تصل عملية التفاوض بين الفواعل السياسية إلى نتيجة مرضية ومقبولة للشعوب، ومن هنا عمدت الدول إلي تغيير استراتيجياتها وتكتيكاتها في هذا المجال، حيث كان، وما زال أبرز هذه الاستراتيجيات هي “الدبلوماسية السرية” التي تمثل الصورة الثانية في العلاقات الدولية وفن التفاوض، تلك العلاقات التي ليس فيها اعتبار للرأي العام، وليس فقط مع تباين الموضوعات، وتأثير الرأي العام، ولكن مع طبيعة الموقف التفاوضي، ومع اختلاف الأطراف التي يتم التفاوض معها وتغير مواقعها في السلطة أو في هيكل اتخاذ القرارات. وتأسيسا على ذلك أصبحت الدبلوماسية السرية توجها قويا وفاعلا في المؤسسات العلمية ومراكز الدراسات، ويمثل هذا الفن من الدبلوماسية –في عصرنا الحالي- علما له أصوله وقواعده في العلاقات الدولية، وأن الدول أتقنت هذا الفن لتجاوز أسباب التوترات فيما بينها بعيدا عن الرأي العام وتطلعات الشعوب.

 

يتواصل…….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى