الذاكرة السودانية: حوار الأطراف المعنية في الكتب السودانية (1 ــ 2)

محمد الشيخ حسين
بعد ثلاثة أيام من الانقطاع عن القراءة سيصبح الكلام بلا نكهة، بهذه الحكمة الصينية القديمة نبدأ رسم خارطة طريق لحوار الأطراف المعنية في السودان.
ويبدو أن رسم مثل هذه الخارطة بات أمرا مطلوبا بشدة في هذه الأيام. ولن أتفق أبدا مع من يرى أن حوار الأطراف المعنية المنشود بمنزلة تبرير لإصدار أحكام، فمثله لا يحتاج إلى تبرير، فالمؤلف قام بما ينبغي أن يقوم به كل مطلع على الواقع المؤسف للقراءة والمأساوي للحوار في بلادنا.
وعندما قررت أن أكتب عن الحوار عبر كتب قرأتها وجدت معارضة للفكرة ممن حولي، لأنها وفق ما قالوه لي، لن تستهوي أحدا، ولن تجد لها جمهورا، وبالفعل فهذا الكلام منطقي إلى حد كبير، فكيف لي أن أقنع أناسا لا تقرأ، وربما تفعل ذلك، لأنها لا تريد أن تقرأ أصلا.
فن الحياة
هل القراءة هواية؟ قد تكون الإجابة المباشرة عن هذا السؤال بلا، خاصة أن آراء عدد كبير من المفكرين والمثقفين تدل على أن القراءة أكثر من مجرد هواية نمارسها، وإنما القراءة هي الحياة، والقراءة السليمة هي فن الحياة.
وهناك من يرى أن القراءة تلك السنة الإلهية التي كانت أول كلمة في الرسالة الخالدة (اقرأ) أدركها غير المسلمين وتناساها وأغفلها المسلمون في يوم من الأيام فكانت بداية النهاية للحقبة الماضية من عمر الحضارة الإسلامية. ماذا ولماذا وأين ومتى وكيف؟
أسئلة وأهداف
سكب مداد غزير عن فن القراءة من جهة طرح خمسة أسئلة: ماذا نقرأ، لماذا نقرأ، أين نقرأ، متى نقرأ، وكيف نقرأ؟
بداهة ينبغي على المرء قراءة كل ما يحبه ويستمتع به، وقراءة كل ما هو مفيد. وهنا يتعين علينا التحذير من الوقوع في فخ الرغبة في قراءة الكتاب كاملا، مستشهدين بمقولة أوسكار وايلد (إذا وجدت أنك لا تستمتع بقراءة الكتاب نفسه مرة بعد مرة، فأعلم أنه لا داعي لأن تقرأه على الاطلاق).
وهناك سبعة أهداف للقراءة هي: الرغبة في الاستمتاع، الحصول على الثقافة العامة، استكشاف الصورة العامة للكتاب، المراجعة حيث يقرأ القارئ كتابا ويعود إليه بعد فترة لتثبيت ما فيه من معرفة في الذاكرة، البحث عن المعلومات، القراءة بدافع تدقيق المكتوب ومراجعته وتصحيحه كما يفعل المصحح اللغوي، الرغبة في السيطرة واستيعاب المادة المقروءة والقدرة على تذكرها، والسعي لنقد محتوى الكتاب كما يفعل الناقد.
الأساس الحضاري
القراءة وحدها حسب الأستاذ محمود عباس العقاد (هي التي تعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة). وارتفاع نسبة قراء الكلمة المطبوعة، حسب المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (هو الأساس الحضاري لتصنيف البلدان في العالم إلى دول متخلفة أو نامية أو متقدمة). وفيما يتصل بتاريخ القراءة، سجل البرتو مانجويل في كتابه (تاريخ القراءة)، تجربته في القراءة من جهة أنها (مفتاح فهم العالم). ويتذكر مانجويل جيدا الكلمة الأولى التي قرأها، ويتحدث عن شغفه الكبير بالقراءة منذ نعومة أظفاره. لكن أهمية كتاب مانجويل أنه يعيد للكتاب تألقه وللقارئ وجوده بعد أن أدرك قرّاء اليوم أنهم معرضون للفناء أمام الزحف التقني لأساليب الثقافة المعاصرة، وأمام ثورة المعلوماتية الحديثة. ويعرض تاريخ القراءة بأسلوب فلسفي وبإحساس مشبع بالعاطفة، وكأنه يروي حكاية الحب العظيم بين الإنسان والكتب، وساعده في ذلك مقدراته الهائلة على التصوير، المقترنة بمقدرات وكفاءات المثقف العالم ليفتح الكتاب بذلك الأبواب من أجل الدخول إلى عالم محفوف بالأسرار كي لا يترك القارئ لحظة واحدة وحيداً على الرغم من كثرة المعلومات والاقتباسات والملاحظات القيمة التي يتحف القارئ بها. لقد تبنى تعطش القراء إلى الكتب وحوّل هذا الموضوع بنجاح ماهر إلى كتاب رائع. وجولة على محتويات الكتاب يجد القراء بأنه حفل بموضوعات طريفة وقيمة تدور في مجملها حول القراءة والكتب حيث نقرأ.
النهضة الحضارية
يقتضي الإنصاف، القول إن التعرض لأهمية الكتاب ودوره في النهضة الحضارية نال حظه في الكثير من المناهج التعليمية والوسائل الإعلامية، إلا أن التعريف بالآليات الفنية في التعامل معه وطرق قراءاته وتقييمه يغيب عن حياتنا في ندرة متناهية.
إن هذه الآليات هي ما يحاول (حوار الأطراف المعنية في السودان) بسطه بعد استخلاصها من أفكار المؤلفين وكتاباتهم في مسالكهم مع الكتب.
غير أن واقع الحال يفيد أن هناك كتب نقع في غرامها من النظرة الأولى حتى قبل أن نلتقيها بمجرد قراءة خبر ما عن أجوائها، وكتب أخرى نعشق مفرداتها ونحفظها عن ظهر قلب ونبدأ في تدوينها في الصفحة الأخيرة من الكتب التي نلتقيها بعدها.
وعندما انتهيت من قراءة مئات الكتب السودانية، خطر في ذهني أن انتقل من تأملات قارئ شغوف في عالم من القراءة، إلى بناء قاعدة لحوار يجمع الأطراف المعنية في بلادنا، عشما في أن تبدد هذه القاعدة العوالم المتراكمة والمعقدة من الماضي، انعكاسا للفوضى السوداوية التي يحياها عالمنا الحاضر.
وتأسيسا على أن القراءة عبارة عن محادثة، القراءة فعل مريح، منعزل، هادئ وحسي. وربما لهذا السبب خطر لي أن أعيد قراءة عدة كتب هي هجين من المذكرات الشخصية والكتاب الرصين والدراسات المبتكرة والكتب العادية، في (حوار) يشتمل على ملاحظات وتأملات وأدب رحلات وصور وصفية لأصدقاء ولأحداث عامة وشخصية مستلهمة كلها من قراءاتي. ثم وضعت قائمة بالكتب التي سأختارها. بدا لي من المهم ومن أجل التوازن أن يكون هناك قليل من التنوع من كل شئ وبما أنني قارئ انتقائي فإن هذا الأمر لم يكن صعبا. إذ لا وعي بلا قراءة، ولن تنفع القراءة بلا منهجية تستطيع تأمين جني الثمار وتجاوز القراءة كوسيلة لقتل الوقت أو المتعة إلى استثمار القراءة كأداة قابلة للتفعيل والاستثمار في حياتنا اليومية وأيضا في مختلف المجالات.
الكتابة السودانية
واقع التجربة ربما يشير إلى أن الكتابة السودانية لا تتميز بالكشف الدقيق لحالات الإنسان، وهو يبني تصوراته وأحلامه وأوهامه. وشغل هذا الواقع ذهن الأستاذ محمد أحمد محجوب وعبر عنه بجملة مباشرة (لا تزال هذه البلاد في حاجة إلى كتاب ثائرين يجمعون بين قوة الفكرة واتساقها وجمال الأسلوب ويخرجون من الكتب ما يحمل طابع هذه البلاد).
ومنذ أكثر من ربع قرن من الزمان ظللت أتابع ما سميته بالكتابة السودانية، و أقصد بها الكتب التي كتبها سودانيون عن قضايا سودانية. وظللت أبحث فيها عن الوفاء لقضايا السودان الذي طبعها بطابعه.
وكنت أتساءل بعد كل كتاب انتهي من قراءته: من أين وكيف تأتي أفكاره ومن أي بحر تتموج أحداثها؟ وأعني بذلك طبعا المؤلفات الغرائبية المحشوة بالمعلومات التي تشعر بكاتبها، وكأنه جاء من نجم بعيد عن الأرض.
وأصبح الراجح عندي أن المعرفة التي تتولد عن القراءة قد تكون بطاقة حجز للنجاج، والكتب هي خزائن تجارب لمفكرين وحكماء أبلوا في الحياة ونقلوا تجاربهم لنا لنستفيد منها في حياتنا وسلوكنا.
وهكذا تتحدث الكتب التي يضمها حوار الأطراف المعنية عن أشياء كثيرة دفعة واحدة، فتصاب بالدوران خاصة إذا كنت تفترش ما يقال بعد القراءة. وتحاول أن تتغطى بالذي يرسخ فيك، وهنا أذكر قصة لطالب علم كان يترك حلقة الدرس في منتصفها كل مرة فسأله المعلم: ولكن لماذا؟ قال الطالب: يا معلمي إني في كل مرة آخذ الذي يكفيني وأخاف إذ أنا حصلت من علمك الوافر على أشياء عدة ينسيني بعضها البعض، فأنا أخرج كل مرة من حلقتك بشيء واحد عالق عليّ أن أرتبه في سكينتي خير من أن تتلقفني دهشة الزخم.
منهج جيد
قد يكون هذا منهج جيد، غير أن ترتيب المعارف في السكينة هو الفكرة الأهم، ولا أعرف لماذا تشعر حالما تنهي كتاب الدكتور منصور خالد القيم (الثلاثية الماجدية) بضرورة إشعال شمعة وترتيب المعارف التي قدمها لك وسط سكينة شمعة، ربما ينتقل لك أهميتها وربما أكثر من هذا حيث تحاول مراقبة أو بالأحرى تحسس شعلتك الداخلية فالإنسان قد يكون شعلة ناطقة هكذا.
وفي حوار الأطراف المعنية هذا يأتيك الدكتور حسن الترابي بزخم مرتب، فإضافة إلى منهجيته المميزة في رصد الأشياء ها هو في كتابه المذهل (المصطلحات السياسية في الإسلام) يدعوك إلى مخبره لتشهد عملية تشريح بالغة الدقة بل وخطيرة جدا وخيال خصب، لمعاني الكلمات والأشياء، بصورة لا تدري معها هل هو غوص شاعري أم إسقاط آخر أوسع؟ إن هذا من شأنه التبيين أن الخيال يكون شعلة نفسية يقدمها الدكتور حسن الترابي المفكر تضئ الطريق لضبط المعنى والمدلول للفظ في حياتنا، خاصة حين يضبط الموضوع بحديث رجل القانون الضليع بتأكيد أن (اللغة التي تعبر عن الحياة السياسية في بيئة ما إنما تتطور اتساعا في التصريف ورسوخا في المعاني مع تطور تلك الحياة والثقافة نموا واستقرارا أو بؤسا واضطرابا).
وكتب أخرى بجانب سريري تقرأ نفسها لي بصوت عال أثناء نومي. وقبل أن أطفئ الضوء أتصفح واحداً منها، أقرأ مقطعا أو مقطعين، أضعه جانبا ثم أتناول كتابا آخر بعد عدة أيام يكون لدي انطباع بأني أعرفها كلها.
ومن يقرأ سطور كتاب الأستاذ بدر الدين سليمان (بدائل جديدة للنمو ـ نتائج النمو الأخلاقية)، سيدرك من السطر الأول أن المؤلف يقدم إنجازا مهما يتميز بالجدة خصوصا في ربط السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ويضيف هذا الكتاب للمكتبة السودانية جهدا فكريا مهما في تحليل العلاقة المتشابكة المعقدة بين السياسة والاقتصاد والمجتمع، وما يسفر عنها من تعقيدات وخصومات وآحن.
أطلال الوقائع
أما جديد أستاذ الأجيال البروفسيور يوسف فضل حسن، فيقتضي إيراد سيرته الباهرة وغوصه الجديد في مخطوطة (كاتب الشونة)، استنادا على سيرته فقد استعرضنا كتابا مهما بعنوان (ملامح من العلاقات الثقافية بين المغرب والسودان منذ القرن الخامس عشر وحتى القرن التاسع عشر) رصد فيه تأثر السودانيين بالإنتاج العلمي المغاربي في جانبيه الفقهي والصوفي.
ويعتبر هذا الكتاب فتحا في سيرة صناعة ثقافة التسامح، وعكس الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية التي نشأ فيها هؤلاء الأسلاف في البلدين الشقيقين. وبين قدرتهم الفائقة على العيش في تلك الظروف دون المساومة أو التنازل عن قيمهم الأساسية.
وبهدوء شديد مصحوب بتواضع العلماء الراسخين في المعرفة، أعد البروفسير عبد الملك محمد عبد الرحمن، أستاذ الفيزياء النظرية والمدير الأسبق لجامعة الخرطوم كتابا متميزا بعنوان (جامعة الخرطوم ـ الحاضر والمستقبل). يحتوي الكتاب على أفكار وأحلام تؤكد أن جامعة الخرطوم تكتسب أهمية كبرى، كونها مركز إشعاع حضاري وسط المجتمع. فرسالتها رسالة وطنية وإنسانية وحضارية شاملة.
ولا تحتوي بقية الكتب المستعرضة في حوار الأطراف المعنية، على عملية إعادة قراءة فقط، بل هو حديث عن قائمة متضمنة شئياً من الوقوف بين أطلال الوقائع والإفادات والأحداث، وكذلك الحنين للذكريات والأماكن والأصدقاء والصور والكلمات وكأنه يقتفي أثر كل ذكرى من خلال هذه الوقائع وكما يقول بإمكاني كتابة نوع من السيرة الذاتية الوطنية وفقا للأشياء التي منحت لي من هذه الكتب.