رأي

فوز ترامب والفيتو الروسي

عبد الرحمن عبد الله سيد أحمد 

هيوستن، تكساس

من الفرضيات التي وجدت قبولاً كبيراً (ليس في الشارع السوداني فحسب، بل ووسط النخب المثقفة) الفرضية التي تقول إن الأمريكان لا يريدون الإستقرار للسودان. هذه الفرضية لم أجد لها دليلًا ملموساً، لكنها على كل حال أنتشرت كالنار في الهشيم.

لا شك أن تفسير الفيتو الروسي يجب أن يذهب بنا عميقاً، وخارج الحدود. فالقرار وإن جاء مخاطباً القضية السودانية، إلا أن أبعاده لا تقف عند حدود السودان. فليس بمستغرب أن يأتي الفيتو بعد يوم من قرار حكومة بايدن السماح لأوكرانيا بإستخدام السلاح الأمريكي في ضرب أهداف روسية خارج الحدود الاوكرانية (القرار لم يقف عند الحدود الروسية، بل جعل الباب مفتوحاً لكل ساحة تتواجد فيها أهداف روسية).

لاشك أن هذا القرار، يمثل حلقة جديدة من حلقات الصراع الروسي الأمريكي، فكان لابد للروس من الرد، حتى وإن كان رداً في الساحة الدبلوماسية، وذلك من باب أضعف الإيمان.

يجب التنبيه أيضا، إلى أن الجميع كان يتوقع أن تستخدم أمريكا الفيتو لتعطيل مشروع القرار الداعي إلى وقف إطلاق النار في غزة. فلربما أرادت روسيا أن تستبق الفيتو الأمريكي، بموقف تغازل به الشعوب العربية والمسلمة. وهذا ما دفع بالمندوب الروسي إلى تذكير العالم بنفاق الغرب، وذلك في كلمته النارية التي اعقبت استخدامه الفيتو في الملف السوداني.

الصراع الروسي الأمريكي لن ينتهي بوصول ترامب إلى المكتب البيضاوي، فهو ليس صراعاً بين زعيمين (بوتين وبايدن) وإنما هو أحد تمظهرات الإرث الحضاري الروسي، والشعور القومي بأن الحضارة الروسية لاينبغي لها أن تكون مركبة في قاطرة الزعامة الأمريكية والريادة على العالم. ثم إن تجمع البركس الذي تقوده روسيا والصين دخل في منطقة محظورة، لا تسمح الدولة العميقة في أمريكا الأقتراب منها. وهي قضية هيمنة الدولار وإنشاء نظام مصرفي موازي. ومن المفارقات أن السودان يلبي إحدى المطلوبات الروسية والصينية الملحة. فكلا الدولتين في أمس الحاجة إلى الذهب، وذلك لإنجاح مخططها الذي يعرف بال De-Dollarization.

من الصعب جداً بلع الفرضية التي تفترض أن العلاقة بين بوتين وترامب من شأنها تلطيف الأجواء بين موسكو وواشنطن. فنحن نعيش فعليا مرحلة “الحرب الباردة الثانية”، ومن الوارد جداً أن نتجاوزها إلى مرحلة “الحرب العالمية الثالثة”. وقد ذكرت من قبل في إحدى الحوارات التلفزيونية أن ترامب قد يجد نفسه مضطرا إلى التعامل بعنف مع حلفاء واشنطن المنتمين إلى منظومة البركس، وهنا أعني الهند وجنوب افريقيا. فكيف لرجل لا يجد مبرراً لتوفير الحماية المجانية لحلفائه في الناتو، أن يقبل بأنصاف الولاءات من المستوى الثاني من حلفائه. ما يرجح عندي هذه الفرضية، أن الفريق العامل في إدارة ترامب لن يكونوا سوى دمى، يحركها هو كيف يشاء. وهذا ما عودنا عليه في رئاسته السابقة.

وجد فوز ترامب ارتياحاً كبيراً في الأوساط الخليجية. متناسين قضية مهمة، وهي تقدم المملكة والإمارات خطوات كبيرة نحو مشروع البركس، بل وارتياحهم لفكرة التسويات التجارية للتجارة البينية بينهم ودول البركس بالعملات المحلية، ودون استخدام الدولار. فهل يقبل ترامب (التاجر) بهذه التجاوزات، أم يقوم باستثمار الواقعة للحصول على مكاسب اقتصادية أكبر. وهنا يجب الإشارة إلى أن المشروع الاقتصادي للرئيس ترامب قائم على استعادة المكانة الصناعية للدولة الأمريكية، وتحجيم الواردات من الخارج. لضمان نجاح هذا المشروع، فلابد للمصانع الأمريكية أن تجد أسواقاً لمنتجاتها (عالية الكلفة). ولا أجد أسواقاً يمكنها استيعاب هذه المنتجات سوى الأسواق الخليجية (رغم محدودية الاستهلاك فيها، بسبب قلة السكان).

بالعودة إلى الملف السوداني، فإن أكثر ما يقلقني هو استثمار الإمارات للأجواء الجديدة في المطبخ السياسي الأمريكي، وشراء المواقف لتكون لها اليد الطولى في المنطقة الأفريقية. هذه الفرضية قد يصعب تحققها، بالنظر إلى حجم الدمار الذي أصاب سمعة الإمارات وسط المنظومة الدولية، بسبب سياساتها الخرقاء في المنطقة. لكننا نعيش في عالم تخففت فيه السياسية من أثقال القيم، وقد أدركت الأنظمة الخليجية هذه الظاهرة منذ وقت مبكر، واستثمرت فيها بذكاء. وهذا ما يدفعني إلى افتراض أن المعسكر الشرقي قد يكون أجدى للبلاد (على المدى القصير). وهنا يجب التنبيه، إلى أنه لا فرق يذكر في تعامل القوى الكبرى مع الدول منقوصة السيادة. فيجب علينا حساب حجم السيادة الذي يمكننا التنازل عنه، مقابل المصالح المتوقعة.

نقطة أخيرة، لاشك أن البرغماتية الأمريكية قد تغض الطرف عن وجود علاقات اقتصادية بين السودان وكتلة البركس. لكن انفتاح الشركات الأمريكية على السودان يحتاج إلى مجهود كبير من الجانب السوداني. ومن المفارقات أن قطر قد تكون مؤهلة للعب دور الوسيط، وذلك لما تتمتع به من علاقات وثيقة في عوالم السياسة والإقتصاد في واشنطن. لكن ذلك يتطلب تفكيراُ استراتيجياً وشكلاً من أشكال الشراكات الثلاثية بين السودان، قطر، والشركات الأميركية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى