رأي

عن كتاب “أنفاس صليحة” للدكتور عمر أحمد فضل الله

الرفيع بشير الشفيع

(1)

في زيارتي الأخيرة للسودان ، حرصت على إقتناء كتاب “أنفاس صُلَيْحة” لكتابه الدكتور عمر أحمد فضل الله ، بعد أن تصفحت قليلاً من صفحاته التي تتحدث عن “خراب سوبا” وتلاحم العرب القواسمة والفونج على إحداث تغيير في تاريخنا المعاصر ، أنتج نهاية الفصل المسيحي في آخر دويلة له في علوة وعاصمتها سوبا.

ليسمح لي الدكتور عمر أحمد فضل الله ، التغول أو التطاول على تناول ظلال عن هذا الكتاب الفريد والذي يحكي عن حقبة من تاريخنا الحديث وبصورة حوارية ماتعة بين شخوصه (الحقيقيين) ، وقد جاء الكتاب في شكل لوحة حوارية فنية يصلح بها الكتاب أن يكون مرجعاً معتمداً لتلك الفترة وأن يتم اعتماده في مناهجنا ومدارسنا حتى يساعد في تعزيز معرفتنا بتاريخنا بقصص مشوق ، كما يستحق أن يتم إخراجه في فيلم يحكي عن روابطنا الاجتماعية، خصوصاً وأن الكتاب يتناول سيرة أهم مجموعة قبلية انبثقت عن أسرة واحدة وربطت عشرات القبائل الكبيرة برابط الرحم والدم الواحد والهوية ، ويعتبر مرجعاً في ربط تلك الهوية بصورة مشوقة وخفيفة الظل.

(2)
التركيز على عنوان الكتاب “أنفاس صليحة” ينبعث منه ذلك الوعي المتكامل بالنسيج الاجتماعي الذي طالما طعن البعض في أصوله ، لكن وقائع تلك الأنفاس التي تتفق مع تاريخنا الحديث الذي كتب فيه ” مكمايكل McMichael ) السكرتير الإنجليزي في حقبة الإستعمار ، والذي تعمق في الروابط الإجتماعية والأنساب خصوصاً ذات الأصول العربية التي تنحدر منها صُلَيْحة بنت الشيخ “حمد أبودنانة” ، فأنتج مكمايكل خمسة كتب عن تاريخ العرب في السودان ( وجدتها في مكتبة جامعة بريتوريا)، وأنفاس صليحة إنما تنفث لنا ذلك التاريخ العابق المدخور في كتاب الطبقات لود ضيف الله مع توافقه في جزئية تاريخ مملكة سنار ، وما كتبه أمير الأدب والفن والتراث ، الدكتور علي ألمك في العودة لسنار.

(3)
غير أن هذا الكتاب، المسرحي ، الحواري والقصصي التاريخ الجميل ، يحكي عن حقبة انتقال السودان من عهد الدويلات المسيحية الثلاث وآخرها علوة ، وعاصمتها سوبا، هذه العاصمة ، المدينة الراقية المتقدمة المعمار والعمار البشري والثقافي، المسيحي، والنوبي والعربي، الزنجي والقبطي، كانت تمثل حينها واحدة من عرائس مدن العالم ، في حالتها المادية الوجودية ، وبعد أن نشب الخلاف وترقى إلى شقاق فيها ، وبدأت العمالة والمؤامرات فيها بإغتبال الأمير أوندي الذي وسع سكنى الإثنية فيها بإدخال العرب القواسمة وغيرهم فيها ، وطرد زوجته دوانة التي تحالفت مع قبائل القواسمة العربية بقيادة ، عبدالله جماع ( عبدالله القرين)، للإنتقام من “ديرين” الذي جمع الجيوش لهذه المؤامرة التي تسببت في خراب سوبا ، وقد اكتملت بدخول عبدالله جماع المدينة بالتعاون مع الفونج.

(4)
الكتاب يحكي عن اتفاقيات هامة جداً غيّرت مجرى التاريخ السوداني عندما اتفق عبدالله جماع، والد عجيب المانجلك، مع ملوك سنار ، الفونج، الذين كونوا أول مملكة سودانية ، إسلامية حديثة في العام 1504م في سنار وقد بسطوا سلطانهم على كامل السودان من حدوده الجنوبية والى نهاية الممالك المسيحية السابقة في أقاصي السودان ، وقضت هذه الاتفاقية بالشراكة بين ملوك سنار والعرب القواسمة (العبدلاب ، من عبد الله جماع)؛ على أن يحكم العبدلاب المنطقة الشمالية لسوبا بعاصمتهم قرِّي، وأن يبقي ملوك سنار على الحدود الجنوبية من سوبا ، وهكذا دابت سوبا وانتقلت العاصمة منها لقري ولسنار كعاصمة مركزية إتحادية، وبانتهاء سوبا، عم الحكم الإسلامي السودان.

(5)
ما شد انتباهي من ناحية الترابط القبلي السوداني المتفرع من رجل واحد هو ( حمد أبو دنانة ) المحسي، هو انجابه لسبع أخوات ( آمنة ، ومكة ، حليمة ، هدية ، رابعة، فاطمة المرضية (وهي صليحة – صاحبة الأنفاس) وعائشة زوجة عبد الله القرين ووالدة عجيب المانجلك، أخيهن حسن البيتي.

فبنات حمد أبو دنانة هن أساس مجموعة كبيرة من القبائل العربية الكبيرة والعريضة والمتداخلة في السودان إثنياً ومناطقياً، وحضارياُ، و لها الأثر الأعظم في تطور السودان وأساساً عظيماً في هويته الإثنية ، وتاريخه العظيم وتعتبر من أكثر القبائل تشبيكا للهوية السودانية الجامعة متمثلة في القبائل التالية ذات الرحم الواحد.

(سنقتبس الترابط الرحمي لكثير من القبائل السودانية من هذا الرحم الواحد ، من مخطوطة للشيخ الطيب ود البشير عن بنات الشيخ حمد أبودنانة السبع وأخيهن حسن البيتي) :-

حليمة :- ابنها عبد الله الأغبش ( قبيلة الغبش – بربر).

آمنة : ابنها محمد سوار الذهب ( السواراب ، البديرية الدهمشية- الشايقية ، الجعلية)

وديدة : ابنها عمر بن بلال ( قبيلة العمراب- المطمر- أمدرمان)

رابعة : الشيخ شرف الدين ( الشرفة)

عائشة : الزوجة الصغرى لعبد الله جماع ووالدة عجيب المانجلك ( العبدلاب- الجموعية)

فاطمة ( صُلَيْحة، صاحبة كتاب أنفاس صليحة)
ابنها الشيخ إدريس ود الأرباب، المحسي ( العيلفون، توتي)

مكة : الشيخ محمد عبدالصادق ( الصادقاب)

حسن البيتي بن الشيخ حمد : الأخ الوحيد للسبع بنات ( جد الشيخ جاد الله أب شرا ، صاحب قبة الكلاكلة – الفتياياب- والكواهلة )

( 6)

ذكرت القبائل والنسيج الإجتماعي السوداني المترابط بهذه الصورة التفصيلية، لأسفي الشديد مما يحدث من بعض السودانيين الذين يطعنون في أساس وأصول المكون العربي ( النصف المكمل لهوية السودان، الآفرو – عربية) ولها القدح المعلى في الخلاسية السودانية ، وإصرار البعض بالطعن في الهوية السودانية الجامعة والتنوع الثر، حتى تتفكك أواصر الرحم بين الناس وحتى يتم تغريب السودان عبر تفتيت الهوية الإثنية والثقافية وتفتيت عماد الخلاسية التي تمثل هذا التنوع العظيم وما نراه من حرب شعواء على ذلك الجزء المهم من الهوية السودانية ، العروبية.

وذكرنا ذلك حتى نُحدث وعياً لازماً بعد هذا الابتلاء الذي حدث ويحدث في السودان حتى نحدث تغييراً حقيقياً في مفاهيمنا للهوية السودانية الجامعة ، (البانسودانيزم the pan- Sudanism) والتي نحتاج إحياءها وتعزيزها الآن بصورة فاعلة حتى تساهم في معادلة مشروع أفرقة السودان وتكون هي العِدلة الواقعية الحقيقية للخلاسية السودانية، واقعاً واعترافاً من الجميع، وتساهم في إرساء السلام والتراحم والمحبة والتعايش ، وتقف أمام الحرب الشعواء على القبائل العربية في السودان حينا والحرب على القبائل الأفريقية فيه أحينا كثيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى